المخاوف الدائمة


لا يخاف الجنين وهو في بطن أمه من انقطاع الطعام، أو من تدهور صحة والدته، ولا يقلق بشأن عملية الولادة، وطريقة خروجه إلى العالم، وحتى لا يفكر في أيهما الأفضل هل الولادة الطبيعية أو العملية الجراحية أفضل؟ ولذلك لا يقلق من هذا الخيار أو ذاك. أو يخاف ويقلق؟ لا تحتفظ ذاكرتنا بأية تفاصيل في هذه المرحلة، أو هكذا نشعر على الأقل. لكن ما إن يبدأ الطفل في تكوين وعي أولي عن نفسه وعن العالم تبدأ المخاوف. يخاف من الغرباء، ومن الوجوه الجديدة، ومن ابتعاد الأم. يخاف من الحيوانات، ومن الأشياء المتحركة، والأصوات العالية. ثم يخاف من الظلام، والكلاب والقطط والثعابين، والمرتفعات، والأماكن الضيقة، ومن الحيوانات الخرافية والأشباح. يكبر أكثر ويخاف من التعثر الدراسي، ومن تعنيف الوالدين، ومن نبذ الأقران، ومن الحديث أمام الناس، ومن الجن، والإبرة الطبية، وطبيب الأسنان، والرعد. وحين يقارب التكليف ربما يأخذ خوفه طابعاً وجودياً أعمق، فيخاف من الموت والمرض ومن عذاب الآخرة، ومن الله، ومن المستقبل الغامض. وفي أثناء ذلك وقبله وبعده تختفي بعض المخاوف وتظهر أخرى، ويتضخم بعضها وتتضاءل الأخرى. وتتحول أنواع معينة من المخاوف لدى البعض إلى “رهاب/فوبيا” مرعبة، ربما تفسد حياته، أو تعرقل مسيرتها.ويدخل الحياة بصورة رسمية حين يضم إلى ما سبق خوفه على رزقه وخوفه من الحكومة.. من الحبس والمنع من العمل والمضايقة. ولا يزال كذلك حتى يتحقق أبرز مخاوفه وهو الموت.

هكذا تبدو الأمور حين نتأمل الخوف كبقعة مظلمة وباردة مستقرة في عمق الانسان منذ الولادة، لا يكاد يقطعها شيء بالكليّة، حتى الإيمان والتدين لا يمحو المخاوف وإنما يوحّدها وينظمها. يوحّدها فيمحو أو يضعف كل المخاوف الزائفة، ويجعل الخوف الحقيقي واحداً هو الخوف من الله ﷻ “فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ”. وينظّمها بحيث لا تزيد عن حد الاعتدال في الجانب الشرعي، فحدّ الخوف أن يحجز العبد عن مواقعة المناكر، وما زاد لربما أفضى لمحرم أو كبيرة وهي الإياس من روح الله ورحمته. ولا في الجانب الدنيوي، فالخوف يفيد في تجنب الأذى، والمسارعة لتلبية الحاجات الأساسية فَرَقَاً من ضدها، غير أن ذلك كله محكوم وخاضع لمقتضيات الخوف الحقيقي الأساسي. فالدنيا دار ناقصة لا يجتازها الإنسان إلا وهو يحمل تلك المخاوف في جعبته المثقلة، إن لم يخف من الله خاف من غيره ولابد. فالمخاوف دائمة لا تزول إلا بعد اجتياز الظلمة، والنجاة من فوق الجسر، ثم وضع القدم الأولى في الجنة العالية.

4 رأي حول “المخاوف الدائمة

أضف تعليق