“لم أره لغيري”

من المستغرب على الناظر في العلوم والسلوك في هذا الزمن المتأخر أن يبتكر التأملات والملاحظات من فراغ ذهنه مع ضيق اطلاعه وقصور ذهنه على ما لا يشفي ولا يكفي، أو يبادر في دعاوى السبق للمعاني في الشعر والنثر، وسائر المعارف، في شأن علوم الشريعة أو صفات الطبيعة البشرية. وهذا الاستغراب والاستنكار متوّلد لا عن احتقار للمتأخر لمحض تأخر زمانه، ولا تضييقاً على جولان الأفكار في عوالم المعنى، وإنما هو ناتج عن نظر أولي في التركة الهائلة الملقاة على عواتق الأرفف وأزقة المكتبات، وقد تتابعت العقول العظيمة من شتى الأمم والأعصار على تأمل هذا العالم وما يجري فيه، وكتبوا في ذلك ما كتبوا، وقد تطاول الزمن منذ أوائل التاريخ المكتوب، مروراً بسائر الحضارات الكتابية، حتى زمن الرسالة، ثم ما تلا ذلك من اندفاق ألوان العلوم في زمننا على نحو لا قِبل لأحد بإدراك أقل المقول فيها، فأين -بعد هذا كله- ترى موضعاً في العلم أو العالم دقّ أو جلّ لم ينظر فيه ناظر أو يتفكر فيه متفكر.وهذا ليس معنىً مبتكراً فقد أدركه بعض المتقدمين، كما دوّن ذلك كاتب العربية الأبرع أبو حيان التوحيدي في مقابساته، قال:«سمعت أبا إسحق الصابي الكاتب يقول لأبي الخطاب: اعلم أن المذاهب والمقالات والنحل والآراء وجميع ما اختلف فيه الناس وعليه، كدائرة في العقل، فمتى فرض فيها قول وجعل مبدأ لأقوال انتهى منه إلى آخر ما يمكن أن يقال، فليس من قول إلا وقد قيل أو يقال، وليس من فعل إلا وقد فعل أو سيفعل، وليس من شيء إلا وقد علم أو سيعلم، وهكذا في الظن والرأي وغير ذلك، وأمثال هذا بيّن في كل ما أردته، وذلك أنك لا تشير إلى رأي أو نحلة إلا أمكنك أن تظن به كل ما ظن ويظن، وتقول كما قيل ويقال». 

وهذا المعنى يخفف من دعاوى التفرّد ويضعف في النفس كثيراً من أوهام الإبداع، فندرة الأصالة في شؤون الشريعة والإنسانيات غير منكورة، ومعظم أو غالب من ترى ممن يكثر من قول “لم أسبق إليه” في آحاد المعاني -فضلاً عن رؤوس المسائل وتحقيق النظر في المعضلات- إنما هو في وهمه يتردد. والأعقل في هؤلاء من يقول حين تسنح له السانحة “لم أره لغيري”. وفي هذا أيضاً حسم لمادة التعجب من سائر الأقوال المخترعة في الشريعة في هذا الزمان، وسائر الآراء البينة الشذوذ في العقل والنظر. 

ثم إن وراء ذلك معنى هو أولى بالمراعاة من الذي مضى، وحاصله أن في سعة الاطلاع ومدّ النظر في العلم والمعارف وقاية للناظر من كثير من الجهد المهدر، وحفظاً لوقته من الإضاعة، حين يحاول إدراك المعاني من مباديها، ويروم استقصاءها من أوائلها، بذهنه الكليل، ووقته القليل، ونظره الضئيل.

وقد وقع لفئام من أهل النظر من المتأخرين والمتقدمين تحسّر على فوات أوقات لعلة تأخر الاطلاع على كتاب في العلم أو باب من النظر. ومن شواهد ذلك قول المنظّر الفرنسي المعروف ميشيل فوكو:«لو أنني عرفت عن مدرسة فرانكفورت في وقت ملائم، لكنت قد تجنبت عناء كثير من العمل، ولم أقل مقداراً معيّناً من الهراء، ولم أستقل كثيراً من القوافل الزائفة محاولاً ألا أضل السبيل، في حين إن مدرسة فرانكفورت قد سلكت سلفاً الطريق». وكذلك قال عبدالوهاب المسيري رحمه الله عن كتاب علي عزت بيجوفيتش “الإسلام بين الشرق والغرب”:«لو كنت قرأت هذا الكتاب في مقتبل حياتي الفكرية لوفّر عليّ وقتاً كبيراً»، وأشار لدراسات ومنشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وقال:«لو كنت قرأت هذه الدراسات في السبعينات لعجّلت بتحوّلي».

والحاصل أن التواضع العلمي والاقتصاد في الدعاوى صفة متولدة عن صحة النظر وصواب الذهن قبل أن تكون مزية في الخُلُق وحسنة في النفس. وأن حسن الاطلاع واتساعه في مجال الاختصاص -لاسيما في المسائل الظاهرة- يحمي الناظر من إعادة اختراع العجلة، ويختصر عليه طريق العلوم.

رأي واحد حول ““لم أره لغيري”

  1. هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم
    يسأل عنترة ويقول: “هل ترك الأقدمون شيئاً لم يقولوه في الغزل؟”
    هذا قد قيل من اكثر من 1400 سنة

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s