أن تقرأ لوليتا في الرياض !

                                   

“الجندر أصبح يشكّل الخط الفاصل لحرب في صراعات جيوسياسية منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ويحتل مكانة مركزية في خطاب العلاقات الدولية بخصوص الشرق الأوسط” 

منيرة م. شارد

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

  • مدخل

شهد العقد الأخير في مجال الإنتاج المعرفي الغربي عن الإسلام والشرق الأوسط تطورات عديدة، فبعد التحولات الكبرى في الحقل الاستشراقي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي أثمرت تفتتاً منهجياً في المعرفة الاستشراقية، بحيث اندرج البحث عن الإسلام في حقول الإنسانيات والاجتماعيات الأكاديمية، وبعد انتهاء مرحلة “دراسات المناطق” والتي كانت تعتمد على أنه بدلاً من اقتصار الباحثين على الحدود الضيقة لعلومهم، كلٌ من منظوره الخاص، يتم إدماج كل المهتمين بمنطقه معينة من العالم، أياً كان تخصصهم العلمي، في وحدة علمية واحدة، وكانت قد نشأت دراسات المناطق كمقر لإنتاج المعلومات الأمنية حول الدول الممتدة على محيط السوفيات، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991م انتهت دراسات المناطق كتحول استشراقي. تلا ذلك الانحسار الملحوظ في أقسام دراسات الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحولت تلك الأقسام إما إلى تعليم لغات أمنية (العربية والفارسية والاوردو) في أوساط الاستخبارات، أو أضحت أقساماً نشطة في الدراسات ما بعد الكولونيالية. وفي أعقاب 11 سبتمبر 2001م انشغلت بعض أقسام الدراسات الشرق أوسطية بمشروعات الاحتلال وشؤون الأمن القومي، وتطوير الديموقراطية في العراق.

وقد اتسم العقد الأخير بالسيولة الواسعة في مجال الإنتاج المعرفي الاستشراقي، لا سيما مع تزايد نفوذ وتأثير مراكز الفكر والأبحاث، وتنامي سطوة النقاد والخبراء (توماس فريدمان كمثال) ومراقبو الأمن القومي، وبروز ظاهرة ما يسمى بـ”الوشاة المحليين” وسأعود لها، وانتشار وكلاء الدعاية الصهيونية (آلان ديرشوتنز، ستانلي كورتز، دانييل بابيس، مارتين كارمر) والصحفيون، كما شارك في هذا المجال المعرفي بكثافة مسلمون حداثيون رُشحوا  للقيام بدور لوثر إسلامي (طارق رمضان، رضا أصلان). ونجد أن صمويل هنتغتون وبرنارد لويس يمثلان نموذجاً لعملية التحول في استشراق القرن المنصرم من المستشرق المختص والمنتج للبحث والمعرفة المعمقة، إلى خبير دراسات المناطق بميوله السياسية الواضحة، إلى الداعية والواعظ الصحفي والخبير النشط.

كما يشار أيضاً لتزايد تدخل السياسة في العمل الأكاديمي عبر خصخصة إنتاج المعرفة، على منوال خصخصة بعض أنشطة الجيش حتى التعذيب؛ فقد أوكلت العسكرية الأمريكية لإحدى شركات العلاقات العامة في واشنطن تأليف سلسة من المقالات الداعمة للاحتلال الأمريكي، وترجمتها إلى العربية لتنشر في صحف عراقية، وتمثل دراسات سيد ولي رضا نصر، وراي تقيّة، وعباس ميلاني المعدة في مراكز أبحاث أو معاهد عسكرية نماذج مصغرة لعمل تلك المقالات كما يقول الناقد والأكاديمي حميد دباشي.

وتستدمج كل هذه المعرفة المنتجة عبر هذا الخليط (مراكز أبحاث، صحافة، ناشطون هواة، متعصبون عرقيون، سياسيون وأمنيون…الخ) عن الشرق الأوسط والإسلام ويتم تدويرها في فضاء الإعلام الجماهيري، بفضل التطورات الضخمة في نظم الاتصال، ولا تستأثر لا الجامعات ولا مراكز الأبحاث بالمعرفة بل تذر كل هذه المعارف المقولبة في الفضاء الاجتماعي. ويرى دباشي في ورقة نشرها عام 2007م بعنوان “حالة دراسات الشرق الأوسط: إنتاج المعرفة في عصر الإمبراطورية” موت الباحث في حقل استشراق ما بعد الحرب الثانية كمؤلف مبدع ومستقل ضمن منظومة معرفية محددة، ونشوء ظواهر معقدة ومتذررة عبر أقسام الجامعات، والكليات العسكرية، والمراكز المسيسة، والصحافة المنحازة، والبرامج التلفيزيونية، والسياسية المضللة، لا تستند لبنية معرفية أو نمطية، وتسهم في البناء الاجتماعي للواقع.

  • الغرائبية الاستشراقية

أحد أبرز سمات القراءات الغربية والحداثية لواقع الحياة الاجتماعية في البلاد الإسلامية هو إضفاء الطابع الغرائبي على حياة المسلمين ومعيشة المسلمات، كما تشير لذلك نورة فرج في بحثها “ارتباكات الهوية”، الغرائبية تعني تصنيع تمثيلات ونقل صور وتوكيد تفسيرات وشرح تعبيرات تؤكد للقارئ والمتابع الغربي عمق الاختلاف والغموض في الناحية الشرقية من العالم، الاختلاف في العادات والتقاليد، والأديان، والأفكار، والأساطير والخرافات. وهي غرائبية تبلورت في مدى تاريخي طويل، وتأثرت بعوامل الصراع الدامي بين الشرق والغرب، و لا تخلو من ميول تشويقية أي تهدف لتشويق المتابع وتسويق المنتج، وتدفعها لذلك نزعات سياسية تحقيرية في كثير من الأحيان.

وتتشكل هذه الغرائبية عبر تنويعات ثلاث: الأولى الغرائبية الغيبية، وذلك بتقديم الحياة الإسلامية باعتبارها غير منتمية للحداثة العقلانية، والاهتمام بكشف عقائدها الأسطورية، وتقاليدها الخرافية، ونزعاتها الصوفية الغنوصية. الثانية: الغرائبية الدموية، بالتركيز على العنف “الإسلامي”، والتوحش الداعشي باعتبارها تجليات طبيعية لثقافة بربرية مهزومة. التنويعة الثالثة: الغرائبية الجنسانية، والجنسانية تعني الهوية الجندرية الاجتماعية، أي الواقع الاجتماعي للذكر والأنثى، ويعبر عن الجنسانية في المجتمع عبر الأفكار، والخيالات، والرغبات، والمعتقدات، والمواقف، والقيم، والممارسات، والأدوار والعلاقات. وتتمحور القراءات الغربية والحداثية في هذا السياق حول جنسانية العرب، وموقع الأنثى في الإسلام، وفي الواقع الشرقي عموماً.

وهذه الغرائبية الجنسانية لها تاريخ عميق الجذور، ولا تخلو من خيالات أسطورية فادحة، ففي عام 1955م صدر كتاب “النموذج الشرقي” وهو يتضمن مجموعة من الصور العارية لنساء آسيويات وأفريقيات قام بتصويرها المؤلف جين إفرارد، وتعلق زوجة المؤلف في الكتاب بالقول أنه رغم الشائعات عن المرأة الشرقية فقد ثبت أنه ليس هناك اختلاف في أساس البنية الجسدية بين المرأة الشرقية والمرأة الغربية!

ومن الطريف أيضاً أنه في يوليو 2011م نشرت مجلة التايم مقالاً بعنوان”رومانسية على شارع التحلية”، وهو يعود لإيرين بيكر، تحكي فيه تجربتها الشخصية وتحقيقها الصحفي عن المواعدات بين الجنسين في الرياض، وعن شاب أعطاها رقمه، تقول بيكر في التقرير:”والمفارقة أنه حتى هنا في السعودية تطبق البنات القواعد العالمية للمغازلة حيث قالت مها عن الشاب الذي أعطاها رقمه:”تركته ينتظر لمدة أسبوع ثم اتصلت به، حتى لا يظن أنني فريسة سهلة”. وتلاحظ هنا أن ادعاءها المفارقة والاندهاش من هذا السلوك العادي والمتوقع قادم من مخيلة استشراقية تعتقد بوجود اختلافات جوهرية بين السعوديات/العربيات وبقية نساء العالم. و الأفدح من ذلك أنها تنقل عن شيخ اسمه عبدالله القول:”إن أثمن شيء هو عذرية الفتاة وإذا كان لديها صديقاتها الإناث فلا بأس لأنه أمر مؤقت!”، وهنا أيضاً تلمس بقايا الرؤية الاستشراقية، والتي كان من المتداول فيها نقل صور “الحريم” الممتلئ بالنساء في أوضاع جنسية سحاقية، إن لم أكن بالغت في التأويل.

وهذه التنويعة الثالثة ” الغرائبية الجنسانية” هي ما سأنشغل به في هذه الورقة، سأعرض أولاً لإلماحة تاريخية حول نشوء وتبلور هذه الغرائبية في المخيلة الغربية. وثانياً أنتقل لإثبات وهم القطيعة في الصورة الاستشراقية عن العرب والمسلمين، عبر إبراز نماذج في السينما والرواية، وثالثاً أعرض لبعض التفسيرات المساعدة في فهم أسباب استمرارية الصورة المسيئة للعرب والمسلمين والمرتكزة على تنميط جنساني مقولب.

  • إلماحة تاريخية

تنامت الغرائبية الاستشراقية في أعمال عدد من الفنانين، في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي ورحّالة تلك الحقبة، فكانت الصور التي استدعاها الكتّاب والمصورون المتأثرون بهذا الاستشراق الثقافي شهوانية ومثيرة، تعتمد على التصوير الأوروبي القديم حول “حريم” القصر العثماني ونظام تعدد الزوجات، وقد توفر في أوروبا أدب شعبي ضخم عن الشرق، ففي عام 1704م/1116هـ ظهرت في فرنسا ترجمة لكتاب «ألف ليلة وليلة» بترجمة وتقديم أنطوان غالان، وبعدها بعشر سنوات ظهرت الترجمة الإنجليزية للكتاب، ومع العام 1979م كانت حكايات (ألف ليلة وليلة) قد ترجمت إلى عدد كبير من اللغات يفوق أي كتاب آخر عدا الإنجيل. ويعلّق الأكاديمي البريطاني نورمان دانييل ت1992م في كتابه «الإسلام والغرب، صناعة صورة» على ذلك مبيناً تأثيرات انتشار هذا الكتاب:”لقد لاقت نجاحاً فورياً، واستمرت إعادة ترجمتها، وإعادة طبعها لقرنين أو أكثر، وكان أثرها قوياً ومستمراً، وقد لقيت القصص الإعجاب بسبب العنصر السحري الغالب على المجموعة، ولأنها تنقل صور الأساليب الشرقية، وقد ظل هذا العمل الغرائبي إلى أقصى درجة في أذهان كل الزوار الأوروبيين تقريباً للعالم الإسلامي، منذ ذلك الحين وحتى الآن“.

لقد ظهر الشرق في الخطاب الاستشراقي أرضاً خصبة مملوءة بالنساء والمتع الخيالية، “الكثرة من كتب الرحلات التي انهمرت من المطابع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مما خلّفه كتَّاب مغمورون تعوزهم الشهرة… والحال أنّ عدداً هائلاً من الكتب عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد وجد طريقه إلى النشر لدرجة أن كثيرا من المؤلفين كانوا يستهلون كتبهم بمسوغات تبرر إصدارها، إذ كان ثمة قدر كبير من التكرار والانتحال في هذه الكتب. أما الناشرون فكانوا يلجأون في بعض الأحيان إلى تضمين كتبهم رسومًا مثيرة للنساء بغية الترويج لها!” كما تشير جودي مابرو.

وسيميائياً ظهرت المرأة المسلمة باعتبارها سراً محجوباً، وظاهرة غامضة، فالحجاب كان يثير الكثير من الخيالات في المخيلة الغربية، ترصد ذلك الباحثة النسوية التركية ييغنوغلو بالقول:”شخصية المرأة الشرقية المحجبة تمتلك مكانة مميزة في النصوص الاستشراقية لا باعتبارها ترمز إلى المراة بوصفها غامضة وغرائبية بل ترمز إلى الشرق بوصفه مؤنثاً، محجباً على الدوام، ومغوياً وخطيراً”. ولم تكن المرأة هامشية في النص الاستشراقي، سواء في تدوين الرحلات فـ “الشرق هو نساؤه في نظر الكثيرين من الرحالة الغربيين”كما يعبّر ماري هاربر، أو في الرسومات المبكرة، أو في البحث المعاصر، وهو ما يلخصه نورمان دانييل “ما من موضوع مرتبط بالإسلام اعتبره الأوروبيون أكثر أهمية من حالة المرأة المسلمة“. ويصعّد باحثون الاختلاف في تمثل المحافظة الأخلاقية أو الحجاب أو القوانين المتصلة بالزواج والأسرة بين الشرق والغرب إلى جعله خلافاً “حضارياً”، وهذا ما يقرره برنارد لويس في كتابه الشهير ” أين الخطأ؟”الذي نشره في أعقاب 11 سبتمبر، حين يقول:”وضع النساء قد يكون أكثر الاختلافات عمقاً بين الحضارتين”.

وفي كتابه المهم (الحريم الكولونيالي) تناول الكاتب والشاعر الجزائري مالك علولا ت2005م  “البطاقات البريدية الحريمية” والتي تتضمن صوراً لنساء مغاربيات نصف عاريات أو عاريات تماماً من تلك التي أغرق بها السوق الأوروبية في فترة ما بين 1900 و 1930 مصورون فوتوغرافيون من أمثال السويسري جون غايزر. الكتاب يتضمن تعليقات مالك عالولا ونقده لمحتوى الصور، خاصة الصور التي تصور مشاهد فاضحة “لشبق النساء الجزائريات”. وطبقاً لما ذكره عالولا فهذه الصور هي من إنتاج المستعمر الفرنسي في استديوهات خاصة وهي تصور عالماً نسوياً غير موجود، وتعكس “رغبة في امتلاك الأرض الجزائرية ، فبرك المستعمر الفرنسي صوراً لنسائها ، مستخدماً الجنس كبديل للتوسع باغتصاب وتشويه الثقافة”. الكتاب يوضح المزاعم التي سعى هؤلاء المصورون المغرضون لتأكيدها عن الخلفية الغريبة المتأخرة والعادات الغريبة الجزائرية ، كما تظهر الصور محاولات تلصص الفرنسيين على النساء الجزائريات.

تمثل الصور التي تظهر العربيات عرايا جزئياً أو كلياً، أو خلف قضبان (في إشارة للخضوع والتعرض للقمع)، أو مجتمعات في “حريم” مثالاً فاقعاً للتصورات عن شبق الشرق ونسائه وغرائبيته، كما تؤكد الولع الامبريالي المستمر بانتهاك جنسانية الآخر.

– وهم القطيعة

برغم التحولات الكثيفة في الحقل الاستشراقي، لاسيما مع التدشين الثوري لنص ادوارد سعيد في نقد “الاستشراق”، وشيوع أدبيات المراجعات النقدية للنصوص الاستشراقية، ودراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع، والتعددية الثقافية، والنقد النسوي للتمثيلات الكولونيالية، ودخول الباحثين الشرقيين والعرب والمسلمين في الأكاديميات الغربية، إلا أن الكلشيهات الاستشراقية لا تزال مؤثرة بصورة كبيرة، وهذا ما دعا أستاذة الأنثربولوجيا والدراسات النسوية ودراسات الجندر بجامعة كولومبيا ليلى أبو لغد للاعتراف: “لقد أصبحت الدراسات عن نساء الشرق الأوسط أحد المناطق الأكثر إثارة فكرياً، ومع ذلك ما زال هناك شعور بأن ما يريده الناس فيما يتعلق بنساء الشرق الأوسط هو إلقاء نظرة على الحياة الخفية خلف الحجاب!”، وتؤكد الأكاديمية البريطانية منيرة شارد بعد استعراض مسهب لحقول الإنتاج الاستشراقي في العقد الأخير حول المرأة في الشرق الأوسط وتقول: ” لايزال الباحثون في مجال الجندر في الشرق الأوسط يدورون في دائرة خطاب الاستشراق، ولايزال يتوجب عليهم أن يجدوا مخرجاً لينتقلوا إلى ما هو أبعد من ذلك“.

  • تجليات معاصرة

يمكن استكشاف وتأكيد استمرارية الصورة الذهنية وأنماط التعاطي الغربي مع المحجبات ونساء الشرق الأوسط عموماً عبر طرائق كثيرة، ولكني هنا سأشير بصورة مقتضبة لحقلي السينما والرواية، وقد تعمدت تجافي استعراض أو مناقشة الأطروحات الأكاديمية أو الصحفية في هذا الصدد، لأن السينما والرواية تلقى رواجاً شعبياً كبيراً، وهي من جهة ثانية تقدم للباحث صورة أكثر دقة لأنماط التخيلات و التمثيلات الذهنية للشارع العام الغربي الذي لا يبالي كثيراً بتحرزات الأكاديميين، وتحذلق المثقفين، وأيضاً لتداخل هذين الحقلين بالاقتصاد والسياسة، فالبحث عن الربح يعني ضرورة مراعاة مزاج الزبون وتوقعات المشتري.

1- المرأة العربية في السينما:

قدّم جاك شاهين دراسة مطولة بعنوان “الصورة الشريرة للعرب في السينما الأمريكية”، وقد ترجمت في جزأين كبيرين، وفحص فيها طوال عقدين قرابة 900 فيلم روائي طويل ظهرت فيها شخصيات عربية أساسية أو هامشية، وكانت النتائج مروعة. ففي الفترة 1980-2001م عرضت هوليوود 120 فيلماً مسيئاً للعرب، ويرصد الكتاب تحولات تمثيل عرض “الشيوخ” العرب، والانتقال من حكايات الحريم والرومانسيات العربية التي تستلهم من أجواء “ألف ليلة وليلة”، وصولاً إلى العرب بوصفهم يمثلون الكروش والعروش النفطية. ومن الموضوعات الشائعة في هوليود تمثيل العرب وهم يسعون لاغتصاب الشقراوات، وهذا الخيال الذي يربط بين عنف وشبق العرب لاقتناص حسناوات الغرب يشيع في المخيلة الأوروبية، ففي 2016م ومع تزايد موجات العنصرية ضد اللاجئين نشرت مجلة بولندية على غلافها صورة لفتاة شقراء وهي تتعرض للتحرش والهجوم من قبل عدة أشخاص لا تظهر الصورة إلا أيديهم “السمراء”، وقد كتب بالبنط العريض على الغلاف “الإغتصاب الإسلامي لأوروبا”. ومنذ منتصف السبعينات قدمت هوليود البطلات الغربيات وهن يدرأن خطر شيوخ الصحراء النهمين للجنس، وفي عشرات السيناريوهات يظهر “الشيخ” أو الحاكم العربي وإلى جواره صبايا من “الحريم”.

وفي أكثر من 50 فيلماً تظهر العربيات وهن يتعرضن للإهانة أو الانتهاك الجنسي، ومن الثيمات المتكررة في عرض المرأة العربية كما يرصد شاهين:

1- العربيات راقصات يكشفن عن صدورهن، ويطللن من وراء الحجاب الشفاف، أو يقبعن في الحريم بالقصر.

2- العربيات يحملن فوق رؤوسهن الاثقال، وبعضهن بدينات جداً.

3- وفي بعض الأفلام الحديثة يظهرن مثل كتلة السواد يسرن خلف أزواجهن الذين يظهرون شعورهم دون حلاقة.

ويلاحظ جاك شاهين تأثير الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية في تكريس صورة محددة عن العرب تخدم الاحتلال، ومشاريع التوسع الإمبريالية الأمريكية، ففي 14 فيلماً يظهر فيها الأمريكان وهم يقتلون العرب، ويتضمن الفيلم شكر لوزارة الدفاع وقوات المارينز لما قدمته من دعم وتسهيلات وربما معدات وأجهزة.

وتجدر الإشارة أيضاً هنا إلى فيلم وجدة 2012م، وهو أول فيلم سعودي يترشح للأوسكار، بإنتاج سعودي-ألماني بتكلفة 4 ملايين دولار، وهو يناقش في سرديته الأساسية قمع النساء في المجتمع السعودي. وفي الملصق الدعائي لنسخة الفيلم في السينما الإيطالية، تظهر العديد من النساء المنقبات وهن يراقبن امرأة منقبة أيضاً لكن بزي مختلف اللون تركب دراجة هوائية. وأيضاً فيلم رجم ثريا 2008م والذي يحكي رجم متهمة بالزنا، بصورة درامية مؤثرة، وهو يندرج ضمن الأدبيات الاستشراقية التاريخية في تصوير المآسي التي تتعرض لها نساء الشرق، وقسوة القوانين الإسلامية تجاهها بزعمهم. ويذكر الفيلم بفيلم وثائقي بريطاني شهير أثار ضجة عالمية (موت أميرة) في عام 1980م، يحكي قصة أميرة سعودية قيل أنها أعدمت بعد اعترافها بالزنا على إثر علاقة عاطفية.

2- المرأة العربية في الرواية:

لا يمكن حصر الروايات التي تناولت نساء الشرق الأوسط، وأقصد بالرواية ما هو أوسع من المفهوم الأدبي المتدول، بل السرديات الروائية، بما فيها الرواية الفنية المعهودة والسير الذاتية، لأنه كثيراً ما تختلط هذه بتلك، وهنا أشير لبعضها لا سيما روايات ما بعد 11 سبتمبر:

* الأميرة : قصة حياة حقيقة من وراء الحجاب في السعودية لجين ساسون، نشرت عام 1993م، وحققت أعلى المبيعات في العالم: وهي قصة مدعاة لأميرة مطلقة تحكي معاناتها كأنثى وتتحدث عن قمع المرأة في جدة إبان السبعينات.

* بائع الكتب في كابول: كتبته المراسلة الحربية آن سيرستاد، ونشر عام 2003م: وتتحدث عن قمع النساء في ظل حكم طالبان.

* أن تقرأ لوليتا في طهران: رواية آذار نفيسي. نشرت عام 2003م: وهي تحكي عن أستاذة الأدب الانجليزي في جامعة إيرانية، تعلمت في الغرب، وعادت لتجد نفسها مثقلة بالقيود في ظل الجمهورية الإسلامية، فتضطر للاستقالة من عملها، وتجمع سبعاً من النساء ليقرأن عدة أعمال رائعة من الأدب الغربي، وهي تربط الشخصيات والأحداث في الروايات بالصعوبات التي يواجهنها في حياتهن اليومية. ويلاحظ حميد دباشي على الرواية:

1- الإيحاء الجنسي الفاضح في العنوان، فلوليتا رواية شهيرة لفلاديمير نابوكوف تحكى قصة رجل كبير في السن عاشق جنسياً لفتاة صغيرة، كما أن العنوان يوحي بشيطنة الثقافة المقاومة للأدب غير الأخلاقي، مع أن رواية لوليتا نفسها، منعت في منتصف الخمسينات في فرنسا، وكما منع الفيلم المأخوذ عنها، وصودرت في بريطانيا.

2- على غلاف الرواية تظهر فتاتين تقرآن ما يفترض أنه رواية لوليتا الإباحية، وصورة الفتاتين تستلهم الخيالات الاستشراقية عن جنسانية الشرق، وزواج الأطفال واشتهاؤهم كمسلَّمة شرقية…الخ. والمفارقة -كما يقول دباشي- أن الصورة أساساً منتزعة من صحيفة محلية إيرانية لطالبتين تقرآن نتائج الانتخابات الإيرانية!

3- احتقار الأنماط الثقافية المحلية المناهضة للغطرسة الامبريالية، حيث توصل رسالة عن جهل الإيرانيين وأن لابد لهم من صقل تعبيراتهم عبر استلهام نفائس الأدب الغربي. في كتابها “أقنعة الغازي : الدراسة الأدبية والحكم البريطاني في الهند” 1989م حللت غودي فيسواناثان تأثيرات دراسة الأدب الانجليزي وكيف أصبح أحد الاستراتيجيات الفعالة في السيطرة الكولونيالية. وتأتي رواية نفيسي “كحالة معاصرة ومقنعة لوضع الأدب الانجليزي كأداة لتصنيع الموافقة الثقافية العابر للحدود إلى الهيمنة الأوروأمريكية“.

* قلب المملكة : حياتي في السعودية كارمن بن لادن. نشر عام 2005م: كارمن ديفون التقت بـ(يسلم بن لادن) في سويسرا في صيف العام 1973م وتزوجها، ثم طلقها لاحقاً بعد خلاف طويل، وتتحدث كما هو متوقع في كتابها عن قمع النساء السعوديات، مستغلة علاقتها السابقة بأحد أفراد عائلة ابن لادن الذي ذاع صيتها بعد أحداث 11 سبتمر، وأضحت الكتابة عن هذه العائلة مجال واسع للاسترزاق. وكتبت المؤلفة نفسها في 2004م كتاباً نشر بالفرنسية بعنوان معبّر “الحجاب الممزق” لا أدري هل هو هذا أو غيره.

* بنات الرياض : رجاء الصانع: ترجمت في الولايات المتحدة 2007م. ثم في بريطانيا في 2008م، ثم ترجمت لأكثر من عشرين لغة، وحققت مبيعات كبيرة في إيطاليا وألمانيا، وأخيراً ترجمت إلى العبرية في 2013م: وهي تحكي قصة حياة مجموعة فتيات في الرياض. وفي إبريل 2008م حظي معرض الكتاب بلندن بدعاية غير معهودة، نظراً لتركيزه على الأدب العربي، وقد دعيت رجاء الصانع كاتبة “بنات الرياض” للتحدث في ندوات المعرض. لم تكتب الصانع روايتها لغير مجتمعها القريب، وكانت ترسلها لصديقاتها لأغراض أدبية في أحسن الأحوال، لكن بعد نشرها واشتهارها، ثم ترجمتها أعادت المؤلفة إنتاج النص كمخبرة محلية، وكتبت في مقدمة النسخة الإنجليزية تقول:”شعرت أن من واجبي أن أكشف وجهاً آخر من الحياة السعودية إلى العالم الغربي” وهذه مفارقة فجّة للحقيقة، ولكنها تتناسب مع طبيعة المتلقي، والمزاج الثقافي الغربي، وللأغراض الدعائية. وهذه بعض الملاحظات عن النسخة البريطانية للرواية:

  1. يحمل الغلاف الخلفي عبارة “الجنس والمدينة”، وفي النسخة العبرية على الغلاف “وراء الحجاب، جنس، ومدينة كبيرة”. وفي حساب إسرائيل العربي في تويتر يضع الحساب خبراً عن ترجمة الرواية وعنوانه:”التعرف على المجتمعات العربية”. يعلّق أحد الصحفيين على عبارة “الجنس والمدينة”بأنه يذكر بالمسلسل الأمريكي الجنس والمدينة، ويصف الكتاب بالقول:”يقدم صورة عاهرة عن حياة وغراميات أربع بنات في العشرينات من الطبقة الراقية في الرياض”.
  2. يتضمن الغلاف مقتطفات عن مجلات (والدعاية هنا تكشف لنا بوضوح عن المخيال المؤثر في جذب القارئ العام والمختص وطرق توليد الإثارة التسويقية):
  • “دراسة كاشفة لواحد من المجتمعات الأكثر سرية في العالم” فاينانشل تايمز.
  • “يفجر بشجاعة اهتمامات الحياة الغربية في واحدة من أكثر المجتمعات الإسلامية قمعاً” مترو البريطانية.
  • “سيخبركم الكتاب أكثر من أية مكتبة مليئة بالكتب عن واحد من أغرب المجتمعات وأكثرها انغلاقاً في العالم” نيو ستايتمان البريطانية.

وفي الغلاف الخارجي أيضاً: (“بنات الرياض” مقيدات بالتقاليد الثقافية الشديدة، يخرجن في مواعيد غرامية… ولكن هل يمكنك أن تكوني فتاة من القرن الحادي والعشرين وأن تكوني فتاة سعودية في الوقت نفسه؟)

* جوهرة المدينة : رواية عن عائشة رضي الله عنها. شيري جونز. نشر عام 2008م: تتضمن إساءات متعددة ولغة جنسية منحطة عن عائشة رضي الله عنها، وتتحدث عن “حريم” النبي ﷺ.

* نتائج الحب : رواية لسليمان الدنيا. نشرت عام 2009م: وهي تحكي عن قصة حب مثيرة تدور أحداثها في جدة. ومن الجدير بالذكر أن دار راندوم هاوس –وهي دار نشر بريطانية شهيرة- أقامت عام 2009م موقعاً إلكترونياً لتشجيع مجموعات القراءة الالكترونية وكان أول العناوين الموصى بها في الموقع الجديد هو نتائج الحب لسليمان الدنيا!

* أنا ملالا: لملالا يسوفزي، نشرت في 2013م، تحكي قصتها عن مطالبتها بحق التعليم، وعن قمع طالبان للنساء ووحشيتهم. لاقت رواجاً وحصلت مؤلفتها على جائزة نوبل للسلام في 2014م.

– المخبرون المحليون والمخبرات

أول من استخدم المفهوم هو آدم شاتز في مقالة له نشرها في 2003م عن فؤاد عجمي، وسكّ مصطلح ” مزود المعلومات المحلي”، وهو يعني أساساً العرب والشرقيون عموماً الذي يقدمون المعرفة عن بلدانهم للغربي المحتل، وقد طوّر المصطلح البرفيسور حميد دباشي في كتابه “بشرة سمراء أقنعة بيضاء” ليكون “المخبر المحلي”، وشحنه بدلالات الخيانة الأخلاقية. وقد تميّز الاستشراق -كما أشرت سابقاً- في العقود الأخيرة بمشاركة شخصيات من أفراد المجتمعات الخاضعة للدراسة والاحتلال الغربي، يقول فاضل الربيعي:”إن أكثر ما يميز الاستشراق الجديد هو أنه لم يعد يقتصر على الدارسين الغربيين وحسب؛ وإنما يستعين بجيش من الدارسين والمحللين العرب والمسلمين تكاد تقتصر مهمتهم الكبرى على دعم التصورات المنتجة عن الإسلام والعرب، من خلال عرض المجتمع العربي كموضوع دراسي وتشريحي قابل للمعاينة من جانب اختصاصيين آخرين، بوصفه مجتمعاً شاذاً وغرائبياً“. وناقش الأنثربولوجي طلال أسد هذه الظاهرة في مقالة رائدة:”الأنتربولوجيا والهجوم الكولونيالي المضاد”1973م، وأكد أن هذا المجال المعرفي ينبغي أن ينقل “من تاريخ الأنثروبولوجيا الكولونيالية إلى أنثروبولوجيا الهيمنة الغربية”. وعند استعراض قائمة المخبرين المحليين والمخبرات، سنجد القائمة طويلة وتتزايد، فمن هذه الشخصيات: الإيرانية آذر نفيسي، والباكستاني ابن وراق، والسحاقية إرشاد منجي كما ظهر في كتابها “مشكلة الإسلام”، والهندي سلمان رشدي، والصومالية المرتدة آيان حرسي علي في كتابها “الكافرة” و”العذراء في القفص”، والتي أدرجتها التايمز بين الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً عام 2005، والسورية وفاء سلطان والتي أدرجتها التايمز بين الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً عام 2006، واللبنانية بريجيت جبرييل، وغيرهم. ومن النماذج لأعمال بحثية لمخبرين محليين:

1- “النساء العراقيات- قصص لم تحك من عام 1948م إلى الوقت الحاضر” لناجية العلي نشر عام 2007م، وهي “مخبرة محلية” تشارك في الوضع الكولونيالي المعقد لمجالها التخصصي، وتحول أعضاء أسرتها القريبين وأصدقائها ومعارفها إلى أشياء مثيرة للفضول الأنثربولوجي، كما يعبر دباشي.

2- “انتفاضات عاطفية-ثورة إيران الجنسية” لبارديس مهدفي، نشر في 2008م، وهي هنا تحوّل بني جنسها إلى أشياء جنسية.

– أسباب شيوع التمثيلات الاستشراقية حيال “جنسانية الشرق” واستمرارها

وهنا نصل لمحور أساسي في هذه الورقة، فتكاثر هذه التمثيلات وانتشارها حتى في ظل التطور الضخم لوسائل الاتصال يثير الكثير من الأسئلة. أحاول في ما يأتي تقديم التفسيرات الموضوعية الممكنة لهذه الظاهرة:

1- الشرق كمجال أدبي وخيالي للتعبير عن الرغبات المنفلتة:

يتوسل العديد من الكتاب الخياليين والشعراء مفهوم “الحريم” الشرقي على سبيل التعبير عن فنتازياتهم وإسقاطاتهم الشخصية ورغباتهم المنفلتة اللاتقليدية. في مناسبات عدة، يتوجه العقل الرومانسي الغربي إلى الشرق بحثاً عن الإشباع الجسدي والخيالي الحسي الذي تخفق بريطانيا الفيكتورية أو أمريكا البيوريتانية في إتاحته وتوفيره لهم.  كما تعبر آن ماكلينتوك: أضحت الأماكن البعيدة”مدارات إباحية للخيال الأوروبي تسقط عليه أوروبا رغباتها الجنسية الممنوعة ومخاوفها”. وهذا تفسير يناسب حقبة تاريخية متقدمة في القرن السابع والثامن عشر، وقد ضعفت شرعيته الأدبية بفضل انتشار التحلل والثورة الجنسية منذ أوائل الستينات كما سأشير قريباً.

2- تثبيت الهوية الغربية (ابتكار الآخر):

يتطلب تكوين الهوية الذاتية للفرد في خياله وثقافته وتصوراته إيجاد متقابلات وذوات وموضوعات تتسم بالآخرية والمغايرة تمكنه من تنظيم موقفه من الوجود والعالم والناس، ربما كان ذلك يعود لأسباب فطرية أو أسس نفسية، ولذلك فعموم الأفراد يحمل هذه التقابلات كأسس نظرية راسخة، وتتدخل عوامل كثيرة في تكوين هذه الهوية. تقع الذات في أوهام متنوعة حين ترسم تصوراتها عن الآخرين، كما تضطر أحياناً للابتكار لأغراض الفضول، أو لإشباع الرغبات الأدبية أو حتى الميول المرَضيّة. ويمكن للمتابع أن يلاحظ كمية التشوهات التصورية في المخيال الشعبي عن الآخر الذي ننخرط ضده في عداء سياسي، أو عقائدي، أو غير ذلك. ونجد حكاية تصور مثالاً مفيداً لفهم آليات تكوين الهوية الذاتية/الغيرية، ففي أوائل القرن العشرين أرسل مصور صحفي في تركيا إلى صحيفة لندنية صورة بيت تركي بناء على طلب الصحيفة، وكان البيت البرجوازي يبدو في مظهره وأثاثه مثل البيوت الغربية، فأعيدت الصورة إلى صاحبها مع التعليق التالي “الجمهور البريطاني لن يقبل هذه الصورة لحريم تركي”، فالصحيفة تحافظ هنا لأغراض اجتماعية على الصيغة المعتمدة شعبياً للهوية التركية/الإسلامية، والتي ترتكز على فكرة “الحريم”.

ولم يكن يهدف كثير من التمثيلات الغربية لنساء الشرق بالذات لأكثر من تثبيت الهوية الذاتية الغربية، وإلا فالواقع متشابه في كثير من الأحوال. تقول جودي مابرو في مقدمة كتابها “تصورات الرحالة الغربيين عن النساء في الشرق الأوسط” الصادر عام 1999م: “إنّ حياة النساء في الشرق لم تكن كما وصفوا، وحياة المرأة الأوروبية ظلت مكبّلة بأشد القيود حتى نهاية القرن، لذا فإن الوضع في الطرفين لم يكن مختلفاً كثيراً كما يحلو لكثيرين أن يؤكدوا. فالنساء الفقيرات في كلا المجتمعين كن يعانين من العمل المضنى سواء داخل البيت أم خارجه، وحقيقة ارتداء المرأة الشرقية الحجاب ما كانت لتجعلها أشد معاناة وشقاء بالضرورة. والحال أن النساء لم يكن ضحايا مستكينة وسلبية في واحد من هذين المجتمعين أكثر منهن في المجتمع الآخر”، فمع نزعتها النسوية الواضحة في هذا النص، إلا أنها تعتقد مصيبة أن الغرائبية الشرقية كان مخترعة في كثير من الأحيان، والسبب يعود لطبيعة الآليات الداخلية لتكوين الهوية وسياساتها. ويمكن أن نلاحظ بعض الآليات في هذه المظاهر:

أ.  تأكيد تفوق المرأة الغربية كذات مستقلة أمام الشرقية وأمام الرجل الغربي:

تؤكد الأكاديمية كريستينا فون براون وبيتينا ماثيس في مقالة هامة على أن كتب الرحلة التي ألفتها النساء في القرن التاسع عشر متأثرة بقوة من وضع المرأة آنذاك، “ففي الوقت الذي يعرضن فيه للمرأة الأجنبية كامرأة مقموعة، فإنهن يؤكدن بشكل مضمر تفوق وضعيتهن كنساء. وهكذا فإن وصف المرأة الشرقية يأتي فقط لتأكيد إيجابية مكانة المرأة الغربية. وبلغة أخرى حين تنظر إلى ما يحدث من وراء الحجاب، وتتعرف هناك على السلطة الأبوية، فإنها بذلك لا تؤكد فقط تفوقها الثقافي على المرأة الشرقية، بل تؤكد نفسها كذات إزاء الرجل الغربي”، وهذا تفسير نسوي للظاهرة، قد لا نسلم به، ولكنه يضيء زاوية جديدة للفهم.

ب. اختلاق المفارقة لترسيخ نمط الحياة العائلية البرجوازية الغربية:

فالأيديولوجية البرجوازية الشائعة في القرون الوسطى كانت قائمة على معارضة بين عالمين، عالم عمل الرجال العام المغترب وعالم عمل النساء الخاص غير المغترب والمرتبط برعاية الأطفال والتضحية، كما كانت البنية الاجتماعية الأوربية برمتها معتمدة على تعزيز مُثُل الزواج الأحادي وصورة النساء بوصفهن كائنات مكرسات للتربية ورعاية المنزل. “ولذا –تقول جودي مابرو- فقد كان من شأن تصوير نساء الحريم كأنهن نساء عاديات يعتنين بأطفالهن ويرعين منازلهن كما تفعل النساء في أوروبا أن يقوض كل دعائم الحياة العائلية الغربية. وذلك في قرن من التغير المتلاحق، حيث كان من الضروري أن يتم الحفاظ على هذين العالمين المنفصلين، اللذين كانا عرضة لتهديد دائم ومتواصل”.

ج. إظهار تحرر المرأة الغربية ونجاحات الحركة النسوية بشكل أفضل.

تشير كريستينا فون براون وبيتينا ماثيس إلى أن النقاش الأوروبي تحديداً عن المرأة المحجبة “غير المتحررة” يؤدي وظيفة إظهار تحرر المرأة الغربية ونجاحات الحركة النسوية بشكل أفضل مما هو عليه الحال فعلاً.

3– دور الموقف الغربي الديني والاجتماعي من الجنس:

الدارس لتاريخ القرون الوسطى يعجب حين يعلم أن الأوروبيين كانوا يشخصون بداية الطمث والمشاعر الجنسية المرتبطة بسن اليأس على أنهما مشكلتان مرضيتان، وتوضح جودي مابرو أن الرغبة الجنسية عند المرأة كانت تعتبر مرضًا يتطلب العلاج، وقد يستدعي دخول مستشفيات الأمراض العقلية. لذا كان يجرى الختان (قطع البظر) “لمساعدة النساء في السيطرة على أنفسهن، وفى ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان أطباء الأمراض النسائية في الولايات المتحدة وبريطانيا يستأصلون مبايض سليمة بكل رحابة صدر كعلاج لحالات مثل الجنون المبكر أو الصرع.

وبالنظر إلى مثل هذه المواقف والأجواء المتوترة، ليس مستغربًا أن تكون ردود الفعل تجاه “الجنسانية الشرقية” على ما كانت عليه من القوة والتشوّش والإثارة. وهذا الموقف يعود أساساً لجذور لاهوتية مسيحية، وقد لاحظ طلال أسد أن سلمان رشدي في روايته “آيات شيطانية” التي تسخر من الإسلام وتتهجم على مقام النبي ﷺ يستمد بعض طعوناته من التاريخ العدائي المسيحي للإسلام والذي يحتل فيه السلوك الجنسي للنبي ﷺ مكاناً بارزاً، كما يؤكد نورمان دانيل:”بدا لمسيحيي العصور الوسطى أن من الواضح تماماً أن سلوك محمد مع النساء كان كافياً بمفرده لنفي إمكانية أن يكون نبياً“، ويواصل طلال أسد “فالحديث عن النوازع الجنسية عند شخص ما في التراث المسيحي يعني قطع الصلة بينه وبين الحقيقة الإلهية ووصفه بأنه إنسان خاطئ“.

ويبين نورمان دانييل أن مؤسستي تعدد الزوجات والطلاق في الإسلام إضافة إلى بعض المؤثرات الدينية مثل الحور العين في الجنة قد فسرت بقوة على أنها برهان دامغ على أن الإسلام دين حسي يهب معتنقيه حرية جنسية لا حدود لها، ولذلك فهو دين زائف، فالمرأة تبدو في التصوير الاستشراقي للإسلام مخلوق يقدم المتعة للمسلمين لإعطائهم فكرة عن الجنة.

وحين تغير الموقف من الجنس غربياً، وكثر التعري وذاعت الإباحية، ولم يعد للصورة العارية القادمة من الشرق تأثيراً كما هو في السابق بفعل الانحلال الإعلامي السائد وشيوع التعولم المرئي، عادت المخيلة الغربية لتقلب الصورة، فتتهم الشرق بالكبت، ومحاربة المثليين، يقول جوزيف مسعد:”رغم مهاجمة الغرب ما قبل الحداثي لإسلام العصور الوسطى واتهامه له بالمجون، فإن الهجوم الغربي الحداثي راح يتهمه بكبت الحريات الجنسية في الحاضر!“، ويوضح مسعد السياق السسيوثقافي الذي أنتج هذه المفارقة فيشير إلى أنّ المخاوف حول الاستبداد والتعصّب وكره النساء ورهاب المثليّة أُسقِطَتْ على الإسلام، ومن خلال هذا الإسقاط استطاعت أوروبا أن تظهر على أنها ديمقراطيّة ومتسامحة ومحبّة للنساء ومحبّة للمثليين، وباختصار على أنّها خالية من الإسلام. وهذا يؤكد مجدداً التماهي مع الآليات الداخلية لابتكار الهوية الذاتية، فالآخر لابد أن يكون مختلفاً، غريباً عن الذات، حتى يمكن موضعته في نمط عدائي، وبناء حاجز ثقافي واجتماعي يحول دون تأثيره، ويساعد في ترسيخ السيطرة عليه.

4- الاستراتيجيات الكولونيالية والامبريالية:

يتحدث ليو شتراوس في تحليله لنظرية أفلاطون السياسية عن مدى الحاجة إلى الخرافة لإعطاء الناس مغزى من أعمالهم، ولضمان استقرار المجتمع، وللحفاظ على تماسكه. فيما يأتي أشير للاستراتيجيات والمبررات الاستعمارية في تكوين صورة محددة عن المسلمات والمحجبات والشرقيات، والعامل السياسي يحتل مكانة بارزة في النقد ما بعد الكولونيالي للتمثيلات الاستشراقية، وهو نقد تفصيلي مكثف، وواسع النطاق، وسأحاول اختصاره وتلخيص بعض ملامحه:

  • تبرير الاحتلال (توفير مشروعية أخلاقية لابتداء الاحتلال ولاستمراره)

يمكننا هنا أن نستعرض خمسة نماذج من الاحتلالات الغربية، ونشير لبعض كيفيات تعاطيها مع النساء وجنسانيتهن:

1- الاحتلال الانجليزي للهند:

في عام 1810، في مدينة بيناريس الهندية، ساعد مبشر معمداني إنجليزي اسمه سميث في إنقاذ امرأة من الممارسة الهندية التي عرفت باسم «ساتي»، التي يقصد بها حرق الأرامل. وصف سميث المشهد كالتالي: «بمجرد لمس النيران لها. قفزت عن الركام. فأخذها البراهمة فورًا لوضعها مجددًا في النيران، هتفت: «لا تقتلوني! لا أريد أن أُحرق!» ولكن في حضور مسؤولي الشركة (إحدى الشركات البريطانية في الهند)، عادت إلى منزلها سالمة». ذكرت مجلة لندنية الجهود البطولية لشركة الهند الشرقية البريطانية تحت عنوان «تحرير امرأة!». تقول إحدى الباحثات:”إن كان هناك أمر واحد علمه أوروبيو القرن التاسع عشر عن الهند، فهو طقس «ساتي»”. وتعد قصة سميث عام 1820 عن الرجال البريطانيين الشجعان الذين ينقذون امرأة هندية من محرقة جنازة زوجها واحدة فقط ضمن العديد من التقارير المشابهة المعاصرة. ودعى المبشرون البروتستانت ومدراء الاستعمار البريطاني النساء من طبقة الندار الهندية إلى ارتداء ملابس أطوال وأكثر احتشامًا. كان المسؤولون الإنجليزيون في الهند مهتمين بشكل خاص بأن تخفي المحليات اللاتي تحولن للمسيحية صدورهن. هذه بعض السلوكيات الاستعمارية والتي تتمحور حول استثمار جنسانية النساء والقمع المزعوم ضدهن في تبرير وشرعنة الاحتلال، والتدخل في فرض الصيغ الغربية المناسبة على سلوك ودين المجتمع. تلك المرحلة كان التدخل يعني فرض الحجاب بسمته المسيحية التبشيرية، والآن يعني خلعه بمبررات ليبرالية مزعومة.

2- الاحتلال الانجليزي لمصر:

كتب كرومر في كتابه مصر الحديثة 1908م:”إن وضع النساء في مصر هو عقبة قاتلة أمام بلوغ ذلك السمو في الفكر والأخلاق الذي لابد أن يصاحب إدخال الحضارة الأوروبية”. ويكتب هاري بويل السكرتير الشرقي لكرومر عن التأثير الكريه لحياة الحريم القديمة على جيل الأمهات.

3- الاحتلال الفرنسي للجزائر:

يحلل فرانز فانون موقف المستعمر من الحجاب في سياق رغبته في تدمير بنية المجتمع الجزائري. كتب فانون يقول إن “قوات الاحتلال الفرنسية جندت مواردها الأقوى والأكثر تنوعاً لتوثيق أوضاع النساء وتفسيرها، لنجدتهن من براثن سيطرة رجال بلادهن عليهن“. لم تكن استراتيجية استهداف النسوة جديدة بحد ذاتها، بل كانت منسجمة تماماً مع طريقة المستعمرين، بما فيهم النسويين، بيد أن ما جعل تحليل فانون أكثر عمقاً هو تسميته لمجموعة القوى المركزة على العلاقات الجنسانية، بدءاً من تلاقي الباحثين مع الإداريين المحليين، وتهيئة فكرة تحرير النساء كسبب مناسب للتدخل، فوضعت بنية عمليات جديدة قيد التنفيذ، يعلق فانون:”نبتت بأعداد كبيرة جمعيات للمساعدات المتبادلة وجمعيات لتعزيز التضامن مع النساء الجزائريات… كانت هذه مرحلة فورة طبقت خلالها تقنية تسلل كاملة نزلت فيها إلى الأحياء العربية مجموعات كاملة من العاملين الاجتماعيين والنسوة القائمات على رأس الاعمال الخيرية“.

4- الاحتلال الأمريكي لأفغانستان:

هوّلت العضوة الديمقراطية بالكونجرس، كارولين مالوني، الأمر عندما وقفت يوم 16 أكتوبر 2001 بمجلس النواب الأمريكي مرتدية برقعًا أزرق. وقالت مالوني عن البرقع: «يجعل التنفس صعبًا. وكذلك الرؤية بشكل خاص، حيث تصبح هناك شبكة أمام عينيك ويكون الأمر أشبه بوضع 15 بوابة زجاجية أمامك. الأمر مهين للغاية. كأنك ليس لديك أي هوية». وبعد شهر من وقوف مالوني في الكونجرس مرتديةً البرقع عام 2001، تحدثت السيدة الأولى، لورا بوش، عن الأعمال الوحشية التي ترتكبها طالبان بحق الأفغانيات، داعية «الشعوب المتحضرة في جميع أنحاء العالم» إلى المشاركة في الجهود «لأنه في أفغانستان، نرى العالم الذي يريد الإرهابيون فرضه على بقيتنا». ارتدى بعض موظفي البيت الأبيض وأعضاء الكونجرس حاملات من القماش مقصوصة من البرقع الأزرق لإظهار دعمهم. لقد وجدت الولايات المتحدة صرخة حربها التحضّرية التبشيرية. وفي يوليو عام 2004، بعد ثلاثة أعوام من غزو أفغانستان، أعلن بوش الانتصار، قائلًا: «قبل ثلاثة أعوام، كانت أقل مظاهر البهجة محظورة. تعرضت النساء للضرب لارتدائهن الأحذية البراقة اللون. واليوم، نشهد إحياء الثقافة الأفغانية الحيوية».

ومؤخرًا، في مارس 2015، تحت عنوان «خط الدفاع الرقيق أمام جرائم القتل بداعي الشرف»، روت مجلة «نيويورك تايمز» قصة الانتصار، حيث كتبت المراسلة الخارجية أليسا روبين: «كانت فهيمة واحدة من المحظوظات، فقد نجحت في الوصول إلى ملجأ النساء في حالات الطوارئ». فقد شهدت الحرب ذات القيادة الأمريكية في أفغانستان بناء «حوالي 20» ملجأ للنساء «ممولين بالكامل تقريبًا من قبل متبرعين غربيين». «تعتبر تلك الملاجئ أحد الموروثات الأنجح – والأكثر استفزازًا – للوجود الغربي في أفغانستان»، حسبما ذكرت روبين، «ما يوضح أن المرأة تحتاج إلى الحماية من عائلتها وأنها تستطيع اتخاذ خياراتها بنفسها».

منذ بدء الدعوة إلى الحرب عام 2001، صدرت الحكايات عن الجرائم بداعي الشرف – التي يقتل فيها الرجال الأفغان زوجاتهم، أو بناتهم أو أخواتهم اللاتي يجرأن على عصيانهم – عن الإعلام الناطق بالإنجليزية. ففي أغسطس 2010، بعد تسعة أعوام من الاحتلال، حين كان منتقدو الحرب الأفغانية يكتسبون زخمًا، أبرز غلاف مجلة «تايم» فتاة أفغانية تعرضت للتشويه على نحو بشع، وقطع أنفها من قبل قائد بطالبان، تحت عنوان: «هذا ما سيحدث إن غادرنا أفغانستان»!، وصدرت إحدى تلك الحكايات الغرائبية عن الإذاعة الوطنية العامة عام 2012، بعنوان «في مواجهة الموت، فتاة أفغانية تفر إلى الجيش الأمريكي»، حيث وصفت قصة دينا، التي قالت إنها قد هربت من إخوانها لأنهم كانوا سيقتلونها بعد أن وجدوا معها هاتفًا محمولًا. تخبر القصة عن الفرحة الهوجاء للفتاة الأفغانية التي تم إنقاذها في القاعدة العسكرية الأمريكية، حيث جلست تلتهم المثلجات والمقرمشات في الكافيتيريا، وتتعلم الإنجليزية سريعًا من الأفلام، والتي بفضلها –يقول التقرير- أصبحت كلمة kiss (قُبلة) الإنجليزية كلمة جديدة مفضلة لها. لا داعي لتكرار الملاحظة حول الإيحاءات الجنسية في هذه الحكاية ومثيلاتها. وتجد تفاصيل إضافية في مقالة هامة بعنوان:” لماذا تهتم الامبراطوريات الغازية بملابس النساء المحليات؟”.

5- الاحتلال الأمريكي للعراق:

جاء في موقع المنظمة الأمريكية الصهيونية “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات”:”عندما كان بوش يفكر في التدخل بالعراق أدركت المؤسسة غياب أصوات مهمة عن النقاش، الأصوات التي عانت من قمع ووحشية صدام. وجمعت المؤسسة عدداً من العراقيات..الخ”، وقد اهتمت الإدارة الأمريكية ب”معاناة المرأة العراقية” وأصدرت بيان حقائق عن ذلك، وأصدر مكتب قضايا المرأة الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية كتيباً بعنوان:”النساء العراقيات تحت حكم صدام حسين : مجتمع تم إسكاته”.

وفي فبراير 2003م جمع معهد الدفاع عن الديموقراطيات 50 امرأة أمريكية وبريطانية من أصل عراقي لتأسيس “نساء لأجل عراق حر”، وأسهمت العضوات في تأسيس المنظمات النسوية في ظل الاحتلال. وقد أدى الدعم الكبير للمنظمات النسوية في ظل الاحتلال الأمريكي إلى ظهور الفساد العريض، فصرح وزير الدولة لشؤون المجتمع المدني العراقي فرحان عثمان في 2004م:”هناك 2000 منظمة نسائية وهمية تستحوذ على مساعدات الدول المانحة!”.

– دلائل النفاق والتسيس:

أول ما يلفت النظر في هذا الإنتاج المسيس لصورة نساء الشرق الأوسط هو الانتقائية، وهي انتقائية زمانية وجغرافية. فالحملات الدعائية لم تنشط إلا تحضيراً للغزو، واستدامة له، فقد نشطت دوائر سياسية ونسويات ناشطات فجأة في مدة التحضير لاحتلال أفغانستان والعراق وما بعد ذلك. وفي مجال النشر والكتب كثرت في الأسواق الغربية الكتب عن نساء الشرق الأوسط في هذه الفترة تحديداً، وهذا ما رصده حميد دباشي، وقال “هناك مجموعة متزايدة من مذكرات نساء مسلمات أغرقت السوق الأمريكية منذ بدء الحرب على الإرهاب، وهي تشير إلى المخاوف حول حالة النساء المسلمات في العالم الإسلامي لكنها تضع ذلك المأزق مباشرة في خدمة مثيري الحرب الأمريكان… وهكذا أن تقاتل ضد الإرهاب الإسلامي يعني أن تنقذ النساء المسلمات من رجالهن بالذات“. كما تشير ليزا تايلور في مقدمة عملها (قراءة الرغبة من التعاطف إلى النفور ومن التنوير إلى التضمين) 2007م للمزاج الثقافي الغربي المسيس وأثره في رواج كتب وسير وروايات “المخبرين المحليين” تقول:”ثمة تحد خاص تقدمه أنواع الممارسات القرائية التي قد تتدخل في ثنائية اقتصاد النفور والرغبة التي تحرك الاستشراق في عصر الإمبراطورية، ويظهر في تلقي الغرب باندفاع متزايد لكتّاب العالم الثالث والنساء الكاتبات المسلمات”. وتتفق مع هذا الطرح فرون وير بعد استعراضها لرواية “بنات الرياض” وتفسيرها لنجاحها في دوائر النشر الأمريكية والأوروبية وتؤكد:”…إن تلاقي القوى الحكومية وقوى الشركات على أرض الثقافة العالمية يشير إلى أن الكتب التي حققت أفضل المبيعات في العالم لا يمكن أن تقرأ خارج أطر الحرب المعاصرة“.

وبالنسبة للانتقائية الجغرافية، فما معنى أن تختار النسوية الغربية بالتعاون مع السياسيين والحربيين أفغانستان أو العراق بالذات لتموضع نقدها الثقافي وإنشاء السرديات والحكايات عن قمع النساء هناك دون غيرها من البلدان الإسلامية؟ هذا الانتقائية المكشوفة والمسيسة أغضبت بعض الناشطات النسويات، وأبدين امتعاضهن من النفاق الأمريكي، وتتساءل إحداهن: لماذا لا يسلط الضوء على القهر المستمر للمرأة السعودية؟ هل السبب لأن الولايات المتحدة السعودية لا ترغب في انتقاد الحكومة السعودية مع ارتكابها خطايا مشابهة لخطايا طالبان”؟.

وتشير ليلى أبو لغد إلى انزعاجها الشديد من الدعوات التي تصلها للتضامن مع النساء الأفغانيات في أعقاب 11 سبتمبر، وتكتب كاشفة للنفاق النسوي المسيّس:”لم يسبق لي أن تلقّيت من هؤلاء النّساء أي عريضة تدعو إلى الدفاع عن حقّ الفلسطينيات في حمايتهن من القصف الإسرائيلي والمضايقات التي يتعرضن لها يوميا عند معابر التّفتيش، ومطالبة الولايات المتحدة بإعادة النّظر في دعمها للحكومة التي همشتهم وحرمتهم من العمل وحقوق المواطنة ورفضت الاعتراف بأبسط حرياتهن الأساسية. ربما سيوقّع بعض هؤلاء النّسوة التماساً يطالب بإنقاذ المرأة الإفريقية من بتر أعضائها التناسلية… ومع ذلك، لا أعتقد أنّه من السهل حشد مثل هذا العدد من نساء أمريكا وأوروبا إن لم تكن القضية تتعلقّ برجال مسلمين يضطهدون نساء مسلمات، أولئك النّساء المغطيات اللّواتي يشعرن بالحزن الشّديد تجاههن ويحسسن بالتّعالي عليهن تعجرفاً“.

لا يتعلق الأمر بحدوث كل هذه الحكايات أو حتى مدى واقعية أو صدقية الاتهامات والتوصيفات الغربية للواقع الإسلامي وللمعيشة في بلدان الشرق الأوسط، أو بعبارة أخرى لا يهم إذا كان ذلك القمع واقعاً أو متخيلاً، وإنما الذي يهمّ -بالنسبة لمقصود الورقة- هو كشف الدوافع السياسية والثقافية الكامنة، وفضح دعاوى الاستعمار الثقافي باسم التحرر، والانتفاضة ضد القولبة الهوياتية الغربية والنبز النسوي المستمر لأحوال الشرق الأوسط، فكما تثبت الإحصاءات فثلث القتيلات على الأقل في الولايات المتحدة قد قتلن بأيدي عشاقهن أو أزواجهن، ولا أحد يتحدث هنا عن جرائم الشرف، بينما تتحول بلدان عربية مثل الأردن لأيقونات في ظاهرة جرائم الشرف.

ومن جهة أخرى ينبغي ملاحظة السياسات الثقافية الغربية المتمركزة على الإناث كذوات كاشفة عن ثقافة ما، فهذه السياسات لا تطبّق إلا على الثقافات خارج الغرب، ولا تجعل الأعداد الكبيرة من النساء المغتصبات والمضروبات والمنتهكات الإساءة للنساء من السمات الجوهرية للثقافة الغربية، ولا توجد علاقة خاصة مقامة بين الثقافة الغربية والاغتصاب وضرب الزوجات برغم كل تلك الإحصاءات الفائضة، بينما تتفنن الدراسات في تأويل كل ما يمكن من التاريخ والواقع لترسيخ الترابط العميق بين الإساءة أو انتهاك حقوق النساء والعرب والمسلمين.

  • سياسات الجندر كأداة لمكافحة التمرد/التطرف.

في مقال نشر 2011م تشير لالي خليلي لدور سياسات الجندر والعلاقات بين الجنسين في مكافحة الإرهاب، فطفرة أعداد الشباب ما بين 15-30 في البلدان الإسلامية تعتبر ظرفاً بنيوياً كامناً وراء التطرف، ومشكلة عسكرية، ويعتبر تربية النسوة وخلق فرص عمل لهن بمثابة ترياق ضروري. وقد كتبت الكثير من الكتابات في مجال العلوم الاجتماعية التي وضعت لمساندة عمليات مكافحة التمرد الأمريكية في الستينات والتي أولت اهتماماً خاصاً بالتنمية الاقتصادية، ورأت أن النهوض بالمرأة واحداً من أهم السبل للوصول إلى التنمية الاقتصادية، باعتبار أن النساء أقل فساداً وأكثر فاعلية كما أنهن أقل ميلاً للحرب. لقد انخرط الجميع كما تقول خليلي في خطاب الأمن الأنثوي. وقد أكّد كثيرون على أن تأمين النمو الاقتصادي المصمم خصيصاً ليناسب النساء سيجعل من الممكن إنقاذهن من الاستلاب والتطرف. واقترحت ضابطتان أمريكيتان دمج مسألة الجندر كجزء من استراتيجية شاملة مضادة للإرهاب، ورأتا أن ذلك سيمكن العسكر من التعاطي بفعالية أكبر مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي تجعل من مختلف المناطق مساحات ناضجة للاستغلال الإرهابي.

وكتب ديفيد كيلكن وهو رأس حربة المفكرين في مجال مكافحة التمرد ملاحظات شهيرة ومؤثرة، يقول فيها:إن “استمالة نسوة محايدات أو صديقات عبر برامج اقتصادية واجتماعية هادفة من شأنه أن يبني شبكات من المصالح الخاصة المستنيرة التي قد تقوض المتمردين. اكسب النساء إلى جانبك وستملك الوحدة الأسرية، واملك الوحدة الأسرية وستخطو خطوة كبيرة إلى الأمام في تجنيد السكان إلى جانب من يخوض حروب مكافحة التمرد“. وتقول محللة في مؤسسة راند موضحة دور تأمين الخدمات الاجتماعية في كسب ولاء الأهالي:”لقد كانت عمليات الرعاية الصحية شديدة الفاعلية في كسب تأييد الأهالي في أفغانستان، وفي مناسبات عدة تطوعت نسوة تلقين العلاج في العيادات الصحية لتقديم معلومات تكتيكية للقوات الأمريكية كعربون شكر”.

ج. تحويل الجندر والجنسانية إلى تكنولوجيا قمعية:

ساهمت الرؤى الاستشراقية عن نساء ورجال الشرق الأوسط في تبني سياسات معينة في التعذيب، فقد استثمر المحتل المعرفة الاستشراقية كأداة للقهر. كتب الصهيوني المتطرف رافائيل باتاي كتابه “العقل العربي” سارداً مصفوفة كثيفة من الأساطير حول الطبيعة الوحشية والشبقية للعرب، “وسرعان ما أصبح هذا الكتاب أحد الكتب الواجب قراءتها في البنتاجون عشية قيام إدارة بوش الابن بالتحضير لحرب العراق”. وعندما أجرى سيمور هيرش -عميد المحققين الصحفيين الأمريكيين- مقابلات مع المسئولين العسكريين الأمريكيين عن عمليات التعذيب في سجن “أبوغريب”، “كان كثيرون يؤكدون له أن استخدام أساليب الامتهان الجنسي كوسيلة لكسر السجناء العراقيين كان مؤسساً على قراءة بعناية لكتاب (العقل العربي)”، والكتاب نفسه كان على قائمة الكتب المطلوب قراءتها في ندوة “عملية حرية العراق” التي نظمتها سلطة التحالف (CPA) في بغداد، وفي دورة عسكرية للجيش الأمريكي لمكافحة التمرد في كولورادوا.

واستناداً إلى ذلك اعتمدت الولايات المتحدة وغيرها سياسات معينة للتعذيب، كتعرية السجين بحضور النساء، أو تعري المحققة وتعمدها الإثارة الجنسية، أو عبر الإهانات الجنسية المخزية، كما تشير الناقدة الثقافية كيلي أوليفر لبعض التسريبات التي ظهرت عن أساليب التعذيب في جوانتنامو، ومنها حادثة تلطيخ وجه معتقل سعودي بمادة حمراء أخرجتها المحققة من ملابسها الداخلية باعتبارها “دم حيض”، علّقت الفيلسوفة أنجيلا ديفيز”إن هذه الأشكال من الاعتداءات مصممة خصيصاً لانتهاك المحرمات الثقافية للرجال المسلمين“. يضاف لما سبق وإن كان خارج موضوع الورقة أن إشراك النساء في التعذيب الممنهج ساهم في تلطيف وتخفيف الاحتقان والممانعة الشعبية ضد ممارسات التعذيب التي كشف بعض الصحفيين عنها، وقد أدت الجلادات دوراً في أنسنة التعذيب وطبعه بالطابع المثير والإباحي.

 

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

11 رأي حول “أن تقرأ لوليتا في الرياض !

  1. هذا لا يكتبه أي أحد مبارك علينا هذه العقلية شكرًا كثيرًا لكن أعتب عليك جعل 11 أيلول كأنه بداية الأمر وأن ماقبله ماكان مثل مابعده .

    إعجاب

    1. لم أجعل ١١ سبتمبر مرحلة قطيعة مع ما سبق، لكن بلا شك أنها مرحلة استجدت فيها أمور كثيرة، ففي الفترة ما بين 1960-1969م نشر في المشهد الأكاديمي الغربي فقط خمسة كتب وعشر مقالات علمية عن نساء الشرق الأوسط، ثم تضاعف الرقم جداً، ووصل في ما يين 2000-2009م إلى أكثر من 170 كتاباً و670 مقالة علمية. وهذا يدل على ضخامة التحول الذي يستدعي التأريخ ل١١ سبتمبر كمرحلة تاريخية جديدة.

      شكراً لك

      إعجاب

  2. الاستعانة بأفكار اليسار لتهوين الواقع الرديء وتبرير سوء وضع المرأة السعودية! حتى الأفكار ليست أصيلة
    ما عاد النقد للغرب مقبول، بعد عشرات السنين من تكرار الاسطوانة البالية ومحاولات الباسها حلل جديدة
    الوضع رديء ومنحط وقاتم للغاية، و ماذا قدم الإسلاميين للمرأة غير هجاء الغرب ومنشورات الحجاب والعفاف؟ لا شيء غير التحايل والتعامي عن الواقع لأن نقده مكلف ومعقد، والكسل المعرفي أو ربما العجز الذي ارتضوه لأنفسهم جعلهم يعتمدون على فكرة الغزو الفكري والسيداو وغيرها والتي لا يصدقها سواهم
    بمقابل هذا الواقع المعقد والمرير ماذا ينفعني أن أعرف ماقالته صحفية غربية زارت الرياض لشهرين، وأنا التي ولدت وأقيم فيها وأتعذب بسبب هذا؟! لا شيء!

    إعجاب

    1. المقال يناقش فكرة محددة تتعلق بـ”القولبة” وأنماط التمثيل الاستشراقية. ولم يتحدث لا عن الحقوق ولا عن الاسلاميين ولاعن سيداو.
      والساحة متاحة للجميع، بإمكانك تقديم “النقد” المكلف والمعقد وتجاوز عجز وكسل الآخرين المعرفي.

      إعجاب

  3. للاسف منهجية اعادة التمثيل لانفسنا من خلال كتابات و سينما الاخر و التي اصبحت هي فهمنا لذاتنا …و يكأننا لا نقدر على فهم انفسفنا و تقديمها للعالم ..فتولى الغربي ذلك …و اعاد القولبة –و الانثى هي احد الملفات التي تم قولبتها ..

    انتقلنا من مرحلة ما بعد النصوص الاستعمارية الى مرحلة الثمثيل الصورة الاستعماري

    نعم هم انتصروا في معركة الصورة و نحن فشلنا !!

    و اتوقع قبل ادم شانز هناك سيد قطب الذي استخدم لفظ الانجليز السمر و قصده عن المخبريين المحليين

    يمكن وصف المقال بتسييس الجنسانية الاستشراقية

    طرح جميل اخ عبدالله

    Liked by 1 person

  4. مقال ثري نافع، وإن كانت الحقيقة التي أثبتها مرة ، أسأل الله أن يوفقك ويبارك فيك.
    تنبيه بسيط لخطأ كلمة في جملة : (هل السبب لأن الولايات المتحدة السعودية لا ترغب في انتقاد الحكومة السعودية مع ارتكابها خطايا مشابهة لخطايا طالبان”؟) وأظن أن الكاتب يقصد الولايات المتحدة الأمريكية في المرة الأولى

    إعجاب

أضف تعليق