“الإنسان محادثة”

“الذات لا توجد إلا داخل ما أسميه (شبكات محادثة)”

تشارلز تايلور

 

“عندما تدخل في علاقة جديدة وعميقة فإنك تعيد إنتاج ذاتك من جديد”.. لا أعرف إذا كنت قرأت هذه الفكرة أو سمعتها في مكان ما، ولكني قلتها لصديق مقبل على علاقة جديدة، فهي تكثف عدة معان متناثرة، فالعلاقة الجديدة زواجاً كانت أو صداقة -والزواج بالذات لأن الأنوثة فارقة- تضع البنية الشعورية للفرد في سياق جديد كلياً، وهو يسير في هذه العلاقة ويختبر روحه في تفاصيلها، ويعيد اكتشاف قلبه وشخصيته في الحوارات والأحاديث الكثيرة والمتشعبة، في التخطيط المشترك، في الأحضان والقبلات الحانية. والإنسان الجديد الذي يدخل حياتك ربما يستفز أولاً شعورك بالخصوصية، ويجعلك في تحدي من نوع خاص، وفي الوقت نفسه يدفعك لاكتشاف خصوصياتك الروحية والذاتية من جديد، وفهمها وتنظيمها في داخلك.

ويستفز ثانياً رغبتك بأن تكون مفهوماً، وهي رغبة فطرية تجعلك تضع سلوكياتك في إطار عقلاني، معلل، ومنسجم. ولأن طبيعة المجريات لا تتيح ذلك أحياناً فأنت تجد نفسك منساقاً للتفسير والتبرير لدى الطرف الآخر لإثبات المسار الطبيعي للأشياء، وهنا تجد أنك تعيد ترسيخ أو ابتكار الإطار الناظم لأفعالك اليومية.. ربما لم تفكر بهذا الأمر من قبل حين كنت تعيش لوحدك، أو مع صداقات سطحية، وعلاقات قرابية لا تحتاج معها لكل هذا، فأنت بالنسبة للزميل لست مهماً حتى تحتاج لتفسر له ذاتك، وبالنسبة للأهل والقرابة فأنت من الوضوح بحيث لا تحتاج لذلك أيضاً. فتأتي العلاقة الجديدة لتجعلك في بؤرة الاهتمام. يشير عالم الاجتماع الأمريكي بيتر بيرغر ت٢٠١٧م وزميله عالم الاجتماع أيضًا توماس لوكمان ٢٠١٦م في كتابهما المهم (البنية الاجتماعية للواقع) إلى أن “أهم وسيلة لصيانة الواقع هي المحادثة، وذلك لأن الفرد يرى الحياة اليومية في ضوء آلية المحادثة التي تحافظ على بناء واقعه الذاتي وتعدله وتعيده باستمرار… الواقع الذاتي لشيء ما لا يمكن الحديث عنه يصبح أمرًا مضطربًا، وتعطي المحادثة أبعادًا ثابتة لعناصر مفهومة في السابق بصورة عائمة أو غير واضحة، فقد تكون لدى الفرد شكوك حول دينه، ولكن هذه الشكوك تصبح واقعًا بصورة مختلفة عندما يبدأ بمناقشتها، أي أن الفرد يجرّ نفسه إلى هذه الشكوك لكي تصبح -موضوعيًا- واقعًا في سياق وعيه”.

والإنسان الجديد الذي تدخل معه في علاقة حميمة يستفز فيك ثالثاً الرغبة في الحوار وتبادل الأحاديث، وتشعر معه بمتعة الحكايات ولذة ابتكار أو تجديد سردية معتبرة لقصة حياتك وشكلًا محددًا لذاتك؛ فالمرء -كما يذكر الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور- لا يستطيع أن يكون ذاتًا بنفسه، وإنما يكون ذاتًا بالنسبة إلى محادثين معينين فقط، فشركاء المحادثة ضروريين لتحقيق تعريف ذاتي، كما أنهم ضروريين في مسألة فهمي لغات الفهم الذاتي، أي كيفيات تشكيل الآخرين لذواتهم لغويًا.

سردية تنسق من خلالها تاريخك الشخصي، وتدمج وترتب وتلون فيها كل ما تجود به الذاكرة في لوحة ربما تتفاجأ بمنظرها النهائي. وعادة ما تكون هذه السردية مصممة لاشعورياً بحيث تفسر لحظتك الحالية، فأنت -إذا استخدمنا المصطلحات الفنية- تنتقل فيها من صورتك التكعيبية، والتجريدية، أو حتى السريالية، لتقدم لوحة أقرب لتمثيل الواقعية، أو هكذا ترجو. وتكتشف في أثناء حكايتها خيوط الماضي الممتدة عبر السنين، والتي تضع بصماتها في ذاتك. الرسام عادة يضع تخطيط ما، تقريبي، يسمونه “sketch” يقتصر على المعالم الأساسية لفكرة العمل، ربما هوية الإنسان وتخيله وتصوراته الخاصة بشأن ماهية ذاته الباطنة كهذا الـ”سكتش” وقد يكون من حوله هم من وضعوا بصماتهم على هذا المخطط التقريبي لذاته، وتأتي المحادثة لتمحو وتثبت وتوضح، وربما -في الظروف الممتازة- تضيف إلى اللوحة ألوانًا وأبعادًا هامة. هاتان صورتان مجازيتان من عالم الفنون لتقريب دور المحادثة في تكوين الذات والهوية.

قرأت مراراً لأدباء وفلاسفة يعبرون عن انبهارهم بالمسارات غير المتخيّلة التي تمضي إليها حواراتنا مع من نحب. وسمعت حديث لدكتور مختص في الفلسفة ينقل عن هايدغر قوله:”الإنسان محادثة” لا أعرف سياق هذه الجملة عند هايدغر، ولا معناها في فلسفته الوجودية، وإذا كان هايدغر قالها فعلاً أو لا.

ولكن أياً ما يكن فالإنسان بدون شك يبني سرديته عن ذاته وعن العالم عبر نوافذ كثيرة، من أهمها محادثة من يحب.

رأي واحد حول ““الإنسان محادثة”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s