يبقى مقلقاً للروح النقّادة أن تكتشف في وقت لاحق فشلها في تفهم مبررات الآخرين أو فهمها فحسب، أو على الأقل التخفيف من حدة انتقادها، وضراوة شجبها. في يومياته المؤثرة -التي حظيت بترجمة بائسة- يكتب الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي ت1950 أنه تحوّل في أواخر الثلاثينيات إلى حالة الكهول البطّالين التي كان ينتقدها في شبابه. كانت ملاحظة حادّة، ومصارحة مؤلمة.
بالضبط هذا ما يجب أن تخشاه.
لا أقصد ضرورة تفهم مبررات البطالين والمرتزقة والمنافقين، وسائر التشوهات الأخلاقية التي يقترف الناس، ولكن أشعر خلف هذه الأفكار بعمق أثر الزمن في النفوس البشرية. كم من همم وقّادة، وتطلعات وثّابة كانت كالأفق الغائر في سماء المرء، تبخرت، وتلاشت كضريح بلا شواهد في صحراء لم تعرف المطر. يتساقط الأصدقاء الداعمون، وتقف الوظيفة كحائط صد، وتبتكر الحكومة عوائق جديدة، ويموت الأمل في قلوب بدأ يغزوها الشيب في منتصف شبابها. كثيرون ممن تراهم أضحوا على الهامش، وقد انتصر عليهم الزمن، وأسقطهم تتابع النصال، فلم يعد يبالون بشيء، كانوا يوماً ما يضعون في غرفهم جدول طموحات ثري، ومكتز، أو يكتبون في يومياتهم خطط الكثيرة، ويحاسبون أنفسهم بصرامة. ولكن الزمان انتصر!