عبر شاشة هاتفي، وعلى دفعات قصيرة قرأت رواية قصيرة ولطيفة “هيا لنشتر شاعراً” للبرتغالي أفونسو كروش، لم تتجاوز الثمانين صفحة تقريباً.
تحكي الرواية بخيال جامح عن زمن غامض يشتري فيه الناس من المتاجر شخصيات فنية وأدبية. فتاة تقرر أن تشتري شاعراً، وهي تنتمي لأسرة اقصادية جداً ومنطقية جداً، لا مكان فيها للمشاعر، وكل شيء يحسب بالأرقام.
أبدع الروائي في تشخيص نوع من الكوميديا السوداء لمجتمع ديستوبي مرعب، وكأنه يمثّل بؤس الرأسمالية في تغولها الكامل على سائر أحوال المعيشة البشرية، بل حتى تغزو أنماط التخيل، وأشكال الحوار والتواصل والتعبير. تنشأ فتاة ما علاقة سطحية مع الشاعر الذي ينتظر لحظة كشف “يمارس فيها القلم الحب مع الورقة”. شخصية الشاعر في الرواية كاركاتورية بعض الشيء. تبدأ الفتاة ثم أمها تدريجياً بتقبل فكرة المجاز والاستعارة، ثم الشعور بالحاجة لها.. لاحقاً تضطر الأسرة للاستغناء عن “خدمات الشاعر”، لتنخرط الفتاة وأمها في حنين نحو الشعر والمجاز، على نحو يغير من حياتهما.. لم تستطع الفتاة التخلي عن شاعرها حيث ألقوا به قرب الحديقة، فكانت تزوره هناك باستمرار.. لتنتهي الرواية نهاية رديئة ومفاجئة، بما يشبه الخطبة أو المقالة. كنت أنتظر تصعيداً في الأحداث، يضعنا في قلب العوالم الشعرية البديلة، فسياق الرواية وخيالاتها البعيدة أشرعت الباب أمام أحداث متوقعة كثيرة، ثم أغلق الباب بغتة بصورة فظّة وبلا مبرر.
وبكل حال تظل رواية حلوة. ويعجبني هذا النوع من الروايات، على ندرة اطلاعي عليها، أقصد تلك التي تصنع خيالات ومجازات وعوالم بديلة، وتغامر باكتشاف صيغ حركتها، والتنبؤ بمساراتها. وجدت هذا واضحاً في روايات ساراماغو مثلاً، مالذي يمكن تخيله لو توقف الموت عن المجيء للناس؟ ماذا لو أصيب الجميع بالعمى؟!
هذا النمط من السرد الروائي يروق لي، لكونه يمثل تجربة عقلية وتخيلية مثيرة، ومقاربة شعرية فعلاً تتحدى أشكال الثوابت الوجودية والاجتماعية، كما يمثل تثويراً للذهن البشري يختبر فيه الكاتب أنواعاً من المشاعر والمعاني الوجودية غير المرئية في قلب القلب. أتذكر كلمة معبّرة لغابرييل غارسيا ماركيز، عن الشعور الغريب والجارف الذي انتابه حين قرأ بداية المسخ لكافكا، وقال لم أكن أتخيّل أن أحداً يتجرأ على خيال كهذا. هذا بالضبط شعور مذهل.
عبدالله الوهيبي 