“العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها”
الخليل بن أحمد
السؤال أدلّ على عقل المتكلم من الجواب. هذا معنى شائع وفكرة معروفة، وفيها كثير من الصواب، وإن كانت تخالف -في النظر الأولي- البديهة أو الحس العقلي المشترك. فالمعهود أن الجواب هو محك الاختبار للتحقق من مقامات العقلاء وأهل العلم والنظر.
ولكن استحسان الفكرة المذكورة متولد عن التأمل في سياقات الإدراك عند الإنسان ومعاقد النباهة وحسن الفطنة. فالجواب قد يقع نتيجة حفظ أو تلقين مجرد، أو نتيجة تكرار أو محض مصادفة، أو هو مآل متوقع بعد التعلم. أما السؤال الدالّ على جودة عقل السائل فيكون لدقة ملاحظة، أو غوص على معنى ملتبس، أو يتولد نتيجة لتجاوز البديهيات، وأوائل المسائل وظواهر المعارف، فإذا أوغل الناظر في العلم كثر استشكاله، لاتساع نظره في الخلافيات وتنوع أقاويل المصنفين. فالسؤال في هذه الحالة قلّ أن يكون تقليداً، بل لا يكاد يصدر إلا عن اجتهاد ذاتي ومستقل. وربما يبجّل بعض المتفلسفة هذا المعنى لاعتقادهم أن الجواب ينتمي للاعتقاد واليقين أما السؤال فينتمي للتشكك والارتياب، على عادتهم في تفضيل الشك وتحقير اليقين، وهذه زاوية أخرى في البحث لا أود الخوض فيها.
وأيضاً فالعقل السائل ينبئ عن شغف بالجواب، وتشوّف للتعلم، وتواضع للمسؤول، وهو ينطوي على معرفة بجهل النفس، فإن من العلم الشريف المعرفة بمواضع الجهل، وهذا لا يحصله البليد المبتدئ، بل لابد من طلب العلم بهذا الجهل، فالعلم البشري إنما هو -بمنظورٍ ما- مجرد تقليص ضئيل لمساحات الجهل العريض. ولذا تجد كثيراً من هذا الصنف يقابل الأكابر والمختصين أو يجالسهم فلا يسألهم لا لاستغنائه ولا لترفعه، بل لجهله بما يجهله، ولبلادة حسه، وبردة ذهنه.
وكان بعض الدكاترة يناقش السائل في سؤاله، ويحاققه ويدقق: هل يقصد كذا أو كذا؟ مما تحتمله صيغة السؤال المرسل، حتى يقوده لتحديد السؤال بدقة منطقية، وبتركيز يفيد السائل بمواطن الإشكال ومنازع النظر مما قد لا يكون قد خطر بباله أصلاً، حتى ربما ندم الطالب على السؤال أو انزعج من التدقيق، لكونه اعتاد إلقاء السؤال جزافاً بغير تحرير ولا اهتمام، وقد حدثني أحد طلبته عن انتفاعه بهذه الطريقة في التعليم، وإن كان الدكتور نفسه لم يكن مميزاً في تخصصه، إلا أن هذه العادة الحميدة ترجح على مجرد المعرفة البحتة أو حفظ المعلومات ومراكمتها، فتعليم السؤال تجويد للنظر وإغراء بتصحيح المعارف الداخلة للذهن وتنظيمها، وإكساب للمَلَكة، التي تقود لما هو أجلّ وأرفع في العلم والنظر.