المستقبل الذي لن يولد !

“مأساة الإنسان تكمن في أنه يتصورالكمال الذاتي ولكنه لايستطيع تحقيقه

ر. نيبهور

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله:

أخصص هذه المقالة لمحاولة فحص بنية الفعل الإصلاحي وحدود الإصلاح وإمكانياته، في هذه الحقبة من الزمان المتأخر، وأعيّن فيها ملامح المآزق التي تواجه الفاعل والمجموع في مجريات الأحداث، وسطور النظرية. وتتميماً للمقصود أشير أولاً لنبذة قصيرة عن السياق التاريخي الذي يشتغل الفعل الإصلاحي من داخله، وألمح أيضاً للفاعلين الإصلاحيين ومدى دورهم في تأزيم العملية الإصلاحية أو تطويرها.

– السياق التاريخي:

يمكننا تناول السياق التاريخي من عدة جهات:

1- منظور الموقع الحضاري: برغم أن مصطلح الحضارة محمل بمضامين أجنبية كثيفة بارتكازه على صيغة محددة من “التقدم” المادي، والذي يفترض نمطاً معيناً من التحول التاريخي في الأنظمة والمجتمعات نحو الأفضل، في خط تاريخي دارويني متصاعد، إلا أنه وبجوار مصطلحات أخرى كالنهضة والتقدم متجذر بوضوح في الخطاب الإصلاحي والثقافي العام بحيث لايمكن تجاهله، وهنا أستخدمه إجرائياً، والمقصود أن السياق التاريخي الحضاري الحالي يكشف عن تباين مريع بين عالمين منفصلين تقريباً، العالم الغربي بكل وهج الحداثة السياسية والتنموية في مقابل عالمنا العربي تحديداً الذي يشعر بالتصاغر والعار من هزيمته “الحضارية” المؤسفة. وقد طرأ في العقد الأخير مؤثر جديد يزيد من سطوة النموذج الغربي وهو تضاعف أشكال وأنماط الاتصال بالواقع الغربي نفسه، إما عبر الشبكة العنكبوتية، أو عبر التماس الفعلي بالدراسة أو العمل، أو عبر السفر والسياحة، وقد كان الاتصال بالواقع أو النموذج الغربي بكافة تجلياته سابقاً حكراً على النخب، والطبقة العليا من العائلات التجارية والبرجوازية، وحفنة من الطبقة الوسطى، أما في السنوات الأخيرة فقد انفتح الجميع على الخارج فعلياً والكترونياً، حتى الطبقات التي تعد متدينة، بل حتى التي تصنّف على أنها متشددة. وهذا يعني اتساع مساحات التأثير، وتراخي الممانعة، وتفشي صيغ “التثاقف”، وهو مصطلح تلطيفي ويعني تبني أو قبول أنماط غربية معيشية أو فكرية.

2- منظور الاجتماع السياسي: لن أباعد النظر في السياق التاريخي الذي تولّدت في أثناءه كل التعقيدات المركبة لعالم اليوم، وإنما سأضطر لظروف الاختصار إلى القفز إلى لحظة قريبة، وأشير إلى لحظة احتلال العراق في عام 2003م وهي لحظة مفصلية بلا شك في تاريخ المنطقة، باعتبارها حلقة جديدة من الانتهاك المتواصل للمحيط العربي الإسلامي، والتي أوضحت حجم الانكشاف السياسي والتآمر، والتبعية، ثم تأثيرات هذا الحدث في تعملق الانقسامات وتضخمها بين الاتجاهات المختلفة، ونشوء المقاومة المسلحة من غير ترحيب سياسي كما كان سابقاً أيام الجهاد الأفغاني، ليبدأ صراع جديد معقد وتمتد آثاره على الدول المحيطة، مع شيوع خطاب سياسي محافظ ومتخشب، وتصاعد قوى إعلامية متطرفة ضد كل ما هو إسلامي. ثم ما تلبث الأمور أن تهدأ حتى يطرق “الربيع” العربي الأبواب من غير سابق إنذار، ويرتفع سقف الحوارات، والمطالبات، ويبدو المستقبل مشرقاً، والفأل يجتاح الكثيرين، ولكن ينشأ صراع جديد، بين الحلم الشبابي الذي يلوح في الأفق والنفط، فينتصر النفط الملوث بالنار والدم. وتعود الأمور أسوء من ما كانت عليه، ويمسي الحلم بالتغيير والتحرر والعدالة ممارسات تدميرية خرقاء.

3- منظور الفتن والملاحم في الشريعة: ليس من الخطأ القول بأن المنظور الشرعي للخط التاريخي للمسيرة البشرية يكاد يكون معاكساً تماماً للرؤية الحداثية، ففي الشريعة نقرأ قوله ﷺ “لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم”، ونتأمل الأحاديث الواردة في ذهاب أهلم العلم، واتخاذ الجهال، وأحاديث المهدي الدالة على امتلاء الأرض بالظلم، وسوى ذلك من الأحاديث والآثار، فالتقدم أي المضي للمستقبل يعني تزايد الشرور ونقص العلم وغلبة الفساد، أما عند كثير من الحداثيين -لاسيما المتطرفين- فالمستقبل يعني المزيد من التقدم التقني والمادي والرفاه، وحل المعضلات، واكتمال السيطرة على الطبيعة. لا أريد أن أستعجل بذكر نتائج هذه الرؤية، بل سأشير إليها في موضع لاحق.

– الفعل الإصلاحي:

بفعل الانفصال عن المجال التطبيقي وبسبب فقر الأدوات ومحدودية المعرفة لدى كثير من المنظرين في الاتجاهات الإصلاحية تبدو الأطروحات الإصلاحية شعاراتية حالمة، وطوباوية/مثالية، وتفشل في التماس المباشر مع المعضلات الحقيقية. وهنا نجد أنفسنا أمام نوعين من الأطروحات:

1. الطرح المحافظ: تعمدت أن أسميه المحافظ مع التباس التسمية، لرغبتي بالخروج من حواجز الفهم المضطرب للمصطلحات الشائعة، وجوهر أطروحة المحافظين أو الشرعيين تتمثل بالعودة إلى الله، وإلى تمثل سيرة السلف الصالح.

2. الطرح الحداثي: بأي صيغه الليبرالية أو القومية أو غيرها وجوهر أطروحته الدعوة لتمثل القيم الحداثية في السياسة، والدين، والثقافة، والقانون، والاجتماع.

والأهم من توصيف هذه الثنائية الساذجة، هو تحرير أطيافها، ففي الطرح المحافظ فئة شاذة ونادرة، تعتبر أن الحق يكمن برفض كل منتجات الحداثة المعاصرة، مهما أُدّعي انفصالها عن خلفياتها الغربية، كبعض المنتجات التقنية المحضة، وهو رفض جذري تختلط فيه الدوافع المزاجية والفطرية بالدوافع الشرعية، ولكن الحق أن هذه الفئة الرفضية لديها إجابة متماسكة عن إشكالية الحداثة والتقاليد أو الحداثة والدين، ولكن هذا التماسك لا يعني الصوابية، بقدر ما يعني الانسجام الداخلي للموقف.

وفي الطرح الحداثي أيضاً فئة شاذة ونادرة تدعو للقبول الكامل بالواقع الغربي، من غير تفصيل، ولا توفيق، ولا تلفيق، وإنما دعوة للإذعان والاستنساخ المطابق، وهذه أيضاً أطروحة فاسدة كما هو واضح ولكنها تحمل قدراً كبيراً من التماسك والانسجام الداخلي، وإن كان بدرجة أقل من الفئة الرفضية السابق ذكرها، باعتبار أن الفئة الرفضية أقرب للمكونات الأصلية للبيئة الإسلامية، وللتصور الديني عن العالم والآخر.

ثم يبقى القطاع الأكبر من الفاعلين في العملية الإصلاحية مترددين بين أطياف هاتين الرؤيتين المتضادتين، وهذا القطاع الأكبر يحمل في طيات أطروحته -أياً كانت- مبدأ القبول التحليلي أو التفصيل في الموقف من الحداثة ومنتجاتها. وهنا تنشأ أشكال متنوعة من التوفيق والتلفيق والاستعارة بين القيم الحداثية وأنماط المعيشة والسلوك والقيم والمضامين الشرعية والتقاليد المحلية داخل الرؤى الإصلاحية لمجمل الأطياف في المشهد.

المأزق الأعمق الذي يعقد من طبيعة الإشكالات والأسئلة في هذا المسار أننا جميعاً نعيش في واقع تاريخي لم نصنعه ولم نختاره، بل صنعه غيرنا، ووجدنا فيه قسراً، وهذا أدى بدوره لشدة تشابك وترابط صيغ الحياة المعاصرة بالحداثة ومنتجاتها، فالنمو الاقتصادي والرفاه والتطور السياسي والثورة التقنية لا يمكن فصلها عن سياقها الديني والثقافي والاجتماعي الخاص، ومع ذلك فرفض مجمل منتجات التقانة الحديثة أو صيغ الإدارة والاقتصاد وغيرها ليس خياراً مطروحاً ولا مقبولاً، ولا ممكناً من الأساس وهذا الأسوء، وهنا يظهر التدليس والتعمية أو الجهل في الخطاب، فالبعض يبالغ في إمكانية انفصال بعض أنماط الحداثة عن جذورها الفلسفية أو الاجتماعية والثقافية، أو يجهل الروابط بين المنتج وجذوره، أو يقرّ بخلفيات المنتج الحداثي ويجعلها مشروعةً.

ولتجلية الصورة سأذكر بعض الأمثلة التي تعبّر عن المراد بالتعقيد والتشابك:

• مدى إمكانية فصل الديموقراطية عن خلفياتها الفلسفية.

• مدى إمكانية فصل آثار ترسيخ مبدأ “دولة القانون” على الروابط الاجتماعية القبلية والعشائرية، والأنظمة الأهلية للتكافل الاجتماعي والاقتصادي، ونوع الحلول للمشكلات الجديدة التي ستنشأ من جراء ذلك. عادة لا يرغب دعاة دولة القانون بمناقشة مثل هذه الإشكالية، أو ربما لا يعرفون حدود آثار التنفيذ الشامل لهذا المبدأ.

• مدى إمكانية التلاؤم بين الدعوة والترحيب بنجاحات المرأة في المجالات العلمية والأكاديمية والطبية وغيرها، واكتساحها للمجال العام، ورفض أشكال الاجتماع الحداثي، مع التمسك الشديد بالنظام الأسري التقليدي، وإيجاب النقاب وتحريم الاختلاط، ناهيك عن تحريم قيادة السيارة…الخ، ولا أقصد بالتلاؤم المعنى الفقهي، أو الانسجام مع مقتضيات الدليل الشرعي فحسب، بل الانسجام مع طبيعة الواقع الذي يستحيل معه الجمع بين حداثة الدور النسوي مع المحافظة الاجتماعية والشرعية الأكيدة.

• مدى إمكانية الفصل بين توسيع الحريات الفردية وتقليص سلطة الجماعة واحتمالية تزايد التفكك الاجتماعي والاختلال الداخلي للبنى الشعبية. كما يذهب ماكدوجل في دراسته القيمة في السيكولوجيا الاجتماعية إلى أن الاعتدال والحرية الفكرية يشكلان عادةً مقدمة للانحلال الاجتماعي!

• مدى إمكانية الفصل بين أهمية الأحزاب والتنظيمات وسوءات التنظيم الهرمي وخطورته على تدجين محتوى الرسالة وقابليته للاختراق…الخ.

• مدى إمكانية الفصل بين التعايش السلمي والقبول بالمساواة بين الفرق الدينية المختلفة وتراجع الولاء العام للدين نفسه، بمعنى آخر لا يمكن ترسيخ التعايش بين الفرق الدينية المتنازعة من الناحية الاجتماعية إلا بإضعاف الولاء للدين عامة، هذه نتيجة أقرها بعض الباحثين الاجتماعيين.

• مدى إمكانية تحقيق “تقدم” عمراني حداثي وصيغ مواكبة للأنماط الغربية في إدارة المال والأعمال مع حظر المجالات الترفيهية أو التعنت في شروطها، والتشكيك في إمكانية صناعة محتوى ترفيهي متوافق مع قيمنا عبر قوالب فنية حداثية كالسينما وسائر الفنون الأخرى.

• مدى إمكانية تشييد مؤسسات إعلامية ضخمة ومنافسة ومؤثرة عالمياً مع المحافظة على القيم الأخلاقية/الدينية.

والأمثلة لا تنتهي، وهي تمثل خط النار في الاشتباك مع معضلات الإصلاح، ومآزقه. وأيضاً يزيد من ارتباك هذه الصيغة المتراكبة والمعقدة لأسئلة الإصلاح = إنغراس الواقع المعاصر في بؤرة الدولة الحديثة بتركيبتها السلطوية، وبالنظام الدولي، والسياسات العالمية، وأنظمة الاتصالات الدولية، وما وراء ذلك. وليس المقصود من الأمثلة السابقة التقويم أو إبداء الرأي إزاء أي من هذه الثنائيات، وإنما تأكيد صعوبة -إن لم يكن استحالة- الانفصال بين ترسيخ قيم الحداثة ونسف القيم التقليدية والأخلاقية أو الإضرار بها، وأن الفصل النظري بين المنتجات الحداثية مهما كان لامعاً ومقنعاً إلا أنه يخفق كثيراً عند التطبيق، لأنه طبيعة الظاهرة الإنسانية في حركتها أكثر تعقيداً وتركيباً بحيث تجعل من العسير اختزال مواقفها وتسطيحها، وتبقى عموم الخيارات المطروحة -عند التعمق- لا تخلو من صعوبات مؤرقة.

ومن المهم أيضاً تفنيد الوهم الذي يجعل الإصلاح رهيناً لتبني صيغ حداثية تواكب الواقع الغربي، مع التجاهل أو التعامي عن المشاكل الخاصة الناتجة عن الحلول الحداثية في مواطنها الأصلية، فمثلاً في الستينات والسبعينات ساهمت الإصلاحات الاقتصادية في الولايات المتحدة في إزالة مدن الصفيح والأحياء الفقيرة والعشوائيات، ولكن هذا الخيار التنموي رافقه تدمير لشبكة العلاقات الاجتماعية التي تتسم بها هذه البيئات الفقيرة، واستبدلت بها تجمعات هشة في وحدات سكنية وأبراج مرتفعة لا جذور و لا هوية لها.

نموذج آخر نجده في جملة القوانين التي أقرتها الحكومة الأمريكية في فترة الكساد الاقتصادي تحت اسم “مساعدة الأسر المعيلة للأطفال”، وكانت هذه المساعدات تهدف إلى إعانة الأرامل والأمهات العازبات خلال مرحلة انتقالية يحاولن فيها استعادة توازنهن، ولكن هذه الآلية الحكومية أدت إلى الاستغناء الكلي عن دور الأب في الأسرة خصوصاً في الأحياء الفقيرة في المدن، حيث قامت أجيال من الأمهات بتربية أطفالهن بمفردهن، وهكذا فإن المساعدات الحكومية التي وجدت أصلاً لحماية الأسرة قد ساعدت فعلياً على تدميرها.

بل إن طبيعة المتواليات والتوالد القيمي والسلوكي بفعل تبني سياسات حداثية معينة تجعل من الصعب أحياناً على مصمم العملية السياسية والمساهمين في صياغة المشهد التنبؤ بآثار العملية التغييرية، والسبب أن البشرية اختبرت طوال تاريخها حاكمية القيم الدينية والأخلاقية المتجاوزة وآثار ذلك على البنى الاجتماعية والثقافية، ولكنها لا تزال تستكمل اختبار الصيغ والأنماط الثقافية والمعيشية وفق المنظور الحداثي بنزعته الدنيوية الشاملة، ويشير بعض الباحثين –مثلاً- إلى أن التغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي ساهمت في تضخم أعداد النسوة العاملات في مواقع العمل المشتركة أتاحت فرصة إنشاء روابط عاطفية تحولت فيما بعد إلى علاقات جنسية حميمة. وهكذا تجد أن نتائج بعض السياسات التغييرية للواقع التقليدي الاجتماعي والثقافي لا يمكن التكهن بها، لا سيما إذا مورست في بيئات مغايرة ثقافية واجتماعياً، مما يسمح بتنامي التشوهات الناتجة عن تناقضات الهوية الإصلاحية.

– الفاعلون:

إن الإلمام بالطبيعة البشرية وبعمق الشر في الإنسان، واشتماله على النقص الدائم (الجهل، العجلة، النسيان، الظلم) يساعد على الاتزان في تناول الفاعل في العملية الإصلاحية، وهذا الإلمام بالطبيعة البشرية هو فرع عن الإدراك اللازم لنقص الحياة الدنيا نفسها، وتجذر الشر والألم والظلم فيها. هذا من الجهة العمومية للإنسان من حيث هو إنسان، ومن جهة أخص فالمراقب لا تخطئ عينه حجم الإخفاقات عند الفاعلين الإصلاحيين في مشهدنا العربي وعند النخب الدينية والثقافية والسياسية، والاقتصادية، وهي بالعموم جزء من المشكلة، وليست فاعلاً في الحل، لما يتسم به معظمها من فقر الأدوات، والضعف العلمي، والأمية السياسية، وهذا يفاقم بلا ريب من تعقيد العملية الإصلاحية، فكما مضى اتضح أن الخيارات الواقعية للإصلاح تتسم بالتداخل وتستوجب عمق النظر والتحليل، مع آلة علمية ونظرية نافذة، لمقاربة الحلول، وتقويم الخيارات المطروحة، ودراسة خلفياتها المتواشجة، وهي مهمة لا يمكن أن تكون فردية، بل تحتاج لتوافق جماعي، من طيف متنوع من التخصصات الشرعية والعلمية والإنسانية.

وهذا النقص المشار له فيما يتعلق بالفاعل الإصلاحي، ينطبق بصورة مروّعة على الجمهور، أو العوام، أو عموم الشعب “إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة”. وربما نتذكر الأجواء الطوباوية لتمجيد الجماهير في خضم موجات الربيع العربي، والتي بلغت مستويات فجّة، ثم تدهورت لدى البعض مع انحراف الأحداث، وهذا ليس أمراً جديداً، فقد كتب أحد مناصري الثورة الفرنسية في بريطانيا أوائل الثورة:”على الرغم من أنني أندب صادقًا ما حدث ولا يزال يحدث من أحداث وأعمال تعيسة، فإنني أعزّي نفسي بالتفكير أن شرور الثورة تشكّل حادثة عابرة، وأن الخير الذي يميزها شيء دائم”، ثم عاد ليقول بعد بضعة أشهر من تدهور الأحداث:”كيف كان يمكن أن نخدع أنفسنا بهذا الشكل؟…التفكير بإقامة جمهورية من النمور في إحدى أدغال أفريقيا هو أحسن من التفكير بإقامة حكومة حرّة بين كائنات مشوهة بهذا الشكل!”. وهكذا فتفكك الجمهور وسهولة التلاعب به وانصياعه يعقد أيضاً من العملية الإصلاحية.

– إمكانية الاستحالة:

من بين النكت الشهيرة التي يرويها الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك هذه النكتة الظريفة: تمكن أحد الألمان من الحصول على عقد عمل في سيبيريا إبان الحكم الشيوعي، وبما أنه كان على علم بأن الرقابة مشددة على الرسائل التي تبعث من هناك، قال لأصدقائه قبل أن يلتحق بعمله:”تعالوا نتفق على أسلوب يمكنكم من فك شفرة رسائلي، إذا كانت الرسالة التي تصلكم مكتوبة بقلم الحبر الأزرق فاعلموا أن ما فيها صدق، وإذا كانت مكتوبة باللون الأحمر فاعلموا أن ما فيها كذب”. وبعد شهر من سفره أرسل لأصدقائه الرسالة التالية مكتوبة بالحبر الأزرق:(كلشيءرائع،وعلىمايرام،المتاجرمملوءةبالسلع،والشققكبيرةومتوفرة،ومكيفةبشكلجيد،والطعاممتوفر،وهناكقاعاتللسينما.. الشيءالوحيدالمفقودفيسيبيرياالقلمالأحمر!). يمكن اعتبار أن هذا المسافر يمثل “المصلح” في الدول القطرية الحديثة، الكلام والفعل متاح له، فيما عدا أدوات التأثير الفاعلة، والمباشرة. فعمل المصلح في الواقع جزئي ومحكوم بالشروط والضوابط الحكومية، وتظل رؤيته الإصلاحية فقيرة تطبيقياً لظروف الاحتكار الكامل للمجال العام من قبل السلطات، ومع ذلك فليست المشكلة الوحيدة التي تواجه العملية الإصلاحية تتمثل في الإرادة السياسية، وإنما المشكلة المقلقة فعلاً تتمثل في نفس الخيارات والآليات الإصلاحية التي لا يدرك كثير من الفاعلين الإصلاحيين صعوبتها وتعقيدها، وتناقضها الخفي والظاهر مع الشعارات الإصلاحية المتنوعة.

بعد كل هذه التلميحات عن قتامة السياق التاريخي وتعقيدات الأسئلة والإشكاليات الإصلاحية وعن الاختلالات التي يعاني منها الإنسان بطبيعته البشرية، والاختلالات التي يعانيها الإنسان بحكم خضوعه للنظام السلطوي، والاختلالات التي تجعل من التعويل على العموم والجماهير هو بناء على الطين، لا أذهب إلى القول من وراء كل ذلك إلى تثبيت استحالة الإصلاح أو إمكانية استحالته على الأقل، وإنما أقصد إلى التأكيد على بضعة نقاط:

– ضرورة التخفف من الوثوقية العمياء بالشعارات، والالتزام بالتواضع الذي يدفع لاستيعاب شدة تعقيد الملفات التي تستوجب المعالجة في واقعنا السياسي والاجتماعي، وفي أطروحاتنا الثقافية، وأن التفكير الساذج الذي يفصل ويقطّع المنتجات الحداثية عن جذورها وسياقاتها لابد أن يخضع للمراجعة والنقد، وأن أوهام حتمية التعولم والتثاقف مثل أوهام الانفصال عن العالم والانفكاك عن المد الحداثي الجارف. وليست المشكلة الإصلاحية تتمحور في تحرير الإرادة السياسية مع الأهمية الفائقة لذلك، ولكن تبدو المشكلة الإصلاحية أكثر عمقاً عند مناقشة الخيارات وطرق المستقبل المتعرجة. وبلغة واضحة يمكننا القول لا توجد حلول جذرية فاعلة ومقبولة للخروج من الأزمات التي تعصف بالواقع العربي، إما لانعدام الأطروحات، أو فقدانها للكفاءة، وإما لاستحالة وجود حلول جذرية أساساً بحسب المعطيات التاريخية والثقافية والسياسية المتوفرة لنا، وهذا ربما متحقق على المدى القريب والمتوسط، وهذا لا يقلل من قيمة الحلول الجزئية، ولا يعني الاستهانة بتأثيرها.

– ضرورة الإعداد لمزيد من الغربة الشرعية، وأعني بذلك الحد من التوقعات المبالغ فيها إزاء المستقبل، وترسيخ مفاهيم أحاديث الفتن، وهذه هي النتيجة التي يمكن استخلاصها من النظر الشرعي إزاء المستقبل، وهو وإن كان حكماً قدرياً، إلا أن استيعاب المصلح له يدعوه للاتزان، والعناية بالموازنات الشرعية، ويخفض من طموحاته إزاء ما يمكن تحقيقه، مع عدم التراخي في العمل.

– ضرورة مراجعة سياسات التعويل على السلطة في الضبط الاجتماعي والديني، وتطوير النظر الفقهي في العلاقة بالسياسي، فإن بعضاً من ما يعد من المحظورات الشرعية/الاجتماعية قد يسمح به السياسي في المستقبل القريب، وليس من الحكمة إغلاق النظر عن بحث هذه المسائل في ضوء التطورات المتسارعة.

إنه المأزق الكبير الذي يعيشه المسلم في هذا العصر، فهو حائر متردد بين ماض ميت، يسعى لإحيائه وفق الظروف المعاصرة، وهو يسعى بجهده القليل إلى تحقيق هذه المواءمة المعقدة، بحثاً عن مستقبل غامض يشك في ولادته، ويقف منه موقف المتطلع والمتوجس.. إنه واقع يشبه ذلك الذي وصفه المنظّر الإيطالي المعروف انطونيو جرامشي في كراسات السجن بقوله: “تتمثل الأزمة، على وجه الدقة، في أن القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد. وفي هذا الفراغ تظهرتشكيلة واسعة ومتنوعة من الأعراض المرضية المميتة“.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s