وعي الارتباك

يمثل الارتباك الذي يجتاح الشاب والفتاة إبان أوائل العمر/الشباب حالة شائعة أو كثيرة. ارتباك في تكوين الهوية الذاتية، في الموقف من العالم. ارتباك في التفاوض مع الرغبات عموماً، والرغبة الجنسية خصوصاً. ارتباك في الموقف من الجنس الآخر. ارتباك على الصعيد الوجودي وما يصحبه من شكوك أو قلق أو حيرة حول الدين، والنبوة والآخرة، أو توهمات إلحادية مريرة. ارتباك من حالة الصراع الفكري السائدة بين سائر الأطراف من أقصى اليمين الاسلامي، إلى قعر الراديكالية الليبرالية. ارتباك في تصور المستقبل. ارتباك في العلاقات الشخصية، في رحلة البحث عن صديق/صديقة مناسبة. ارتباك في الحب. ارتباك في تحديد الميول والاهتمامات والانشغالات العلمية والعملية، الدراسية والأكاديمية. ارتباك تولده حالة تأنيب الضمير والشعور بالخزي من الآثام الخاصة. ارتباك الفشل في تحصيل حظوة اجتماعية، أو ثقافية.”الارتباك” شعار المرحلة إذاً. هل هذه حالة طبيعية؟ يبدو نعم، إلى حد بعيد في تقديري. لكن؛ تتفاقم أو تتضاءل بحسب الظروف الشخصية. الوعي المسبق بهذا المعنى بجملته يمنح الشاب والفتاة نوعاً من الطمأنينة نسبياً لكون كل ذلك مجرد مرحلة، وستمضي، ويدفعه أيضاً للتريث وتأجيل اتخاذ القرارات المصيرية أو تكثيف المشاورة حولها. غالباً الفشل في إدارة هذا الارتباك ينعكس بصورة سلبية على المسيرة المستقبلية. محور الارتكاز رعاية الإيمان في القلب، أن لا تذهب جذوته بالكلية. أن تحافظ على ثقتك بالله، وبعفوه، وبالآخرة. بالتوق للصفاء والنقاء والطهارة. هذا الإيمان هو الشيء الوحيد الذي يوفر لك السبل لتدبير مجمل التوترات المرتبكة.

(1)

تكوين الهوية الذاتية

تبدأ رحلة الرحيل عن الطفولة حين تنشغل بصورة واعية أو غير واعية بالجواب عن أسئلة ذات طابع تجريدي.

(سؤال العالم ومغزى الحياة؟): غالباً في الأوساط الدينية يكون واضح ومحدد، وقد يتعرض الجواب لهزات بفعل الشكوك العارضة، أو حوادث الموت الفاجعة، أو في حالة الإصابة بأمراض خطرة.

(سؤال الاسم؟): موقفك من اسمك ، وهذا يحصل للفتيات أكثر، والموقف من الاسم مؤثر في تكوين الهوية الذاتية، مدى تميزه، أو تقليديته، أو غرابته.

(سؤال الوالدين؟): تنشأ عادة هنا الخلافات والنقاشات مع الوالدين، ربما يتبلور في نفس المرء حينئذ موقف سلبي من والديه أو أحدهما -لأي سبب- يؤثر في مسيرته لاحقاً، وغالباً يندم على ذلك.

(سؤال القبيلة ؟): يتردد الجواب عن هذا السؤال بين شعور بالفخر، أو النقص أو في حالات قليلة يحصل ما يسمى بـ”كراهية الذات”، وربما يكون الجواب استسخاف هذا السؤال من أساسه.

(سؤال الجسد ؟): الوسامة أو الدمامة، السمنة والنحول، وهو عند الفتيات أكثر، ينعكس الجواب عن هذا السؤال على السلوك بشكل مباشر، وكثيراً ما يكون الجواب غير مطابق للواقع، وهو يتأثر كغيره من الأسئلة السابقة بنظرة العائلة والأقارب والمدرسة، فعادة يحدد الانسان هويته الجسدية من خلال موقف الآخرين، هذا السؤال أكثر حساسية من غيره لأنه يشكّل الخلفية العميقة لبعض مواقفنا لاحقاً.

في حالة الشعور بالدمامة أو السمنة (التي تمثل اجتماعياً الوجه الآخر للدمامة) يلجئ الانسان للتعويض النفسي، بإظهار المرح المفرط أحياناً، أو الالتزام بحمية قاسية، أو بالتباهي الكاذب في الشبكات الافتراضية.

أما في حال الشعور بالجمال فالفتاة عادة يزاد اعتدادها بنفسها، وربما يرتفع سقف طموحها في الحياة عموماً، أما الشاب فالمسألة تكون أكثر تعقيداً، وربما ينعكس هذا الشعور على ذاته بقدر من التشوه، ويتسلل إلى ذاته كوامن أنثوية من شعور خفي بأنه مرغوب به، وهذه الكوامن التي تقع عادة في المحيط الاجتماعي قد تولد لديه بعض العقد أو الرهاب من الآخرين أحياناً، أو يتخذها لتثبيت ذاته وتوكيدها من غير بذل أي مجهود، لاحقاً يتضرر من ذلك حين يتجاوز هذه الفترة، ويواجه الحياة لمفرده، ربما بعضهم يستمر في تقديم ذاته من خلال هويته الجسدية التي لا يملك غيرها على الصعيد الاجتماعي.

الأسئلة كثيرة و لايمكن حصرها. والمؤكد أن الجوابات عليها تصوغ الهوية الذاتية. وليس المقصود مما سبق تصنيف الحالات وتحليلها. فقط أحاول فتح النوافذ.

(2)

في الطريق نحو الجوابات

ماذا أفعل حيال كل تلك السؤالات الهوياتية؟ تتسم عادة مرحلة المراهقة بكثافة الذاتية، بمعنى: الانشغال بالتصورات الذاتية الداخلية لقرب حصول الإدراكات للواقع والحياة، ولتحديد الموقع الشخصي من الوجود والمجتمع والأسرة وبين الأصدقاء، وتدريجياً تتجه النفس للاتزان، بين الانشغالات الذاتية، والهموم والاهتمامات الموضوعية. في البحث عن إجابات لابد من مكابدة ، لأن رحلة التعرف على النفس طويلة ومستمرة ما دام الانسان يتنفس. الذي يجب قوله هو أن تبحث عن الجوابات بنفسك ، وتتحرر من سطوة السياق الاجتماعي والتعليمي، وهذا أمر شاق للغاية؛ لأن من لازم التحليل أن تضع المادة المراد فهمها على طاولة البحث ، وتنفصل عنها مادياً أو معنوياً ، أما في حالة فهم الذات، فأنت المطرقة والسندان في الوقت ذاته ، أنت الباحث وموضوع البحث في اللحظة نفسها ، ومن وسائل التحرر الداخلي: القراءة الجادة، ومجالسة العالم الذكي، ومصاحبة الفطن، واستشارة الخبير الثقة، وإطالة التأمل، والتقليل من الخلطة، والعزلة الدورية.

بطبيعة الحياة لن تكون كل الإجابات كما يشتهي المرء ، ولامحيص عن الرضا بالقدر والإيمان الكامل بأن كل ما أنت فيه قد كتب عليك قبل أن يخلق الله السماوات والأرض.

(3)

من تقنيات التحليل النفسي الفرويدي الكلاسيكية ما يسمى بـ”التداعي الحر” وذلك بجعل المريض يضطجع على أريكة ويتيح له المعالج أن يتكلم بحرية مطلقة عن كل تاريخه الشخصي، عن مخاوفه وأحلامه المنامية وفي حال اليقظة، ومواقف الطفولة…الخ، ومن ثم يقوم المعالج باستنباط وتحليل مسببات المشكلة النفسية لدى المريض، وجذور العقد اللاشعورية التي يعاني منها. ما الذي يفعله المحلل هنا للعلاج؟ يرتكز أساساً العلاج هنا على جعل المريض يواجه عقده الباطنة، ومخاوفه اللاواعية، ويستخرجها ليعرضها أمام وعيه بصورة تامة، ليستطيع التعامل معها ومواجهتها. (هناك تفاصيل كثيرة تقنية وفنية حول هذه الطريقة القديمة والمندثرة تقريباً، وايجابياتها وسلبياتها). وهكذا الكتابة، حين يكتب المرء يعيد تنظيم شعوره، وإدماجه في صيغ لغوية، وبناءات أسلوبية، يجلب مشاعره العميقة وأفكاره وملاحظاته ليضعها على الورق. الكتابة اختبار لاعتقال الشعور الهارب في لحظة تلبّس فاضحة. الكتابة مرآة روحية. والمقصود الكتابة الصادقة، أن تتأنى وتنقب في وعيك الداخلي بهدوء، ثم تنتخب المفردة المناسبة للتعبير عنه في انتخابات حرة ونزيهة. ولست أقصد من ذلك تمجيد مجرد الاستبطان وتأمل خفايا الإدراك الباطنة في النفس، فإن الأمر كما قال الشيخ أحمد ابن تيمية نور الله ضريحه:

“النفس مثل الباطوس [وهو مجتمع الأقذار] كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره، وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيره”؛

ومعناه أن من يريد أن يدقق ويلاحق خفايا غرائزه وخواطره فلن ينتهي، وما دامت الرغبة الفاسدة أو الخاطر الردئ غائب في قاع النفس فليس من العقل ولا الدين تصعيده إلى الخارج، ولا الإفصاح به، فإن الفساد يتجذر في النفس بسبب ذلك، وانظر مثلاً لتأثير الرسائل بين العشاق على شدة انطباع الانجذاب بينهما، وإذا ضعف التكاتب بينهما ضعف الشعور غالباً، وكذلك التحاسد والتغاير والتباغض وغيرها من المشاعر الخفية تتضخم بالتفكر فيها ويزيد أواراها، وما لم تؤثر تلك الخواطر الخفية في السلوك فالمشروع هو الإعراض التام، والتجاهل، وكثيراً ما تذوي بسبب ذلك، وربما تموت. وهكذا فالتحدث بالبواطن، أو الكتابة عنها، توقد الشعور، وربما تنشأه من العدم. والمقصود مماسبق أن بعضاً ممن يشكو من التيه، والحيرة، أو الغموض، أو الارتباك، أو الحزن الشديد بلا مبرر واضح، تكون الكتابة (ولو لم تنشر) ترياقاً وعلاجاً جيداً، فالمشاعر عقب الكتابة يصفها الكتّاب بأنها خليط من شعور ببهجة الإنجاز، وغبطة داخلية، وتحرر جزئي، ومواجهة شجاعة للحقيقة.

(4)

الوقوع في الحب/العشق يمثل أحد العلامات الدالة على تجاوز مرحلة الطفولة في المخيلة الاجتماعية. أن تحب وأن تكون محبوباً هذه الغريزة الدفينة والجوع الذي لا يكاد ينطفئ ما دام الانسان حياً. أبرز ارتباكين يواجههن المرء مطلع حياته: قلق العاطفة (لاسيما عند الفتيات)، وقلق الجنس (لاسيما عند الشباب).

يتناقص الحب (أو التعبير الحميمي عنه) الذي يمنح للانسان في نطاق أسرته عادة كلما تقدم في السن. حين ينجذب المراهق لصديقه ينجذب بتطرف حاد، يذوب في الآخر، وينمحي في شخصه، تلتبس هذه العلاقة كثيراً بين الإعجاب الشكلي، أو التشابه الروحي، وأشرس ما تكون حين تقع من الطرفين لبعضهما، ربما تصل لسلوكيات تعبدية في حالات العشق المفرط. وأحياناً تلتبس مع الرغبات الجسدية. وكثيراً ما تهرب الفتاة/الشاب من وخزات الضمير بشرعنة العلاقة المشبوهة بإدعاء تمثّل أحاديث المحبة في الله. تأتي الموسيقى والأفلام الرومانسية وأغاني الفيديوكليب وحتى الأناشيد القميئة الحديثة لتزيد من ترسخ العلاقات غير السوية، وتعمل بكفاءة على إشعال الأخضر واليابس في تلك المضغة الصغيرة. يستطيع الشاب والفتاة تخطي هذا الارتباك -ولو جزئياً- بتكوين تجمع صداقات منتخبة ذات هموم رصينة، مع مكافحة أوقات الفراغ، والخواطر السيئة، والانخراط في أعمال طويلة ومضنية، وتحصيل إنجازات مستمرة ولو صغيرة تحقق الإشباع النفسي والشعور بالذات. جهود الوالدين في بث روح جياشة وأحضان دافئة حقيقية لأولادهم تساعدهم على الطمأنينة، وكذلك إنشاء الروابط اللاصفية والنشاطات اللامنهجية والمحاضن التربوية والتجمعات الشبابية وتكثيفها تعين في تفريغ الشحنات النفسية الكثيفة.

ولايمكن أن ننسى الإشارة لكتابات ابن الجوزي في “ذم الهوى”، وابن القيم في “الجواب الكافي”، وابن تيمية في “العبودية” والتي تمثل ذخيرة روحية عظيمة التأثير، فقسوة الإغراء لا تهزمها إلا صلابة الإيمان واليقين والعلم.

(5)

بفعل ظروف تاريخية واجتماعية أصبحت تلبية الاحتياج الغريزي والانجذاب الفطري للجنس الآخر معقدة، وطويلة، وباهظة، وإذا ترافق مع ذلك ما نعيشه من عقود من طوفان هائل يغرق ناطحات السحب، بالصور والعري واللحوم البيضاء، والأفلام الإباحية وشبه الإباحية=يكون الحال بائساً لا يحسد عليه أي شاب. وقد تيسر الآن الوصول لكل “الفجور” في العالم بأقل تكلفة وأقرب سبيل بواسطة الأجهزة الحديثة. وهذه الصور القذرة والأفلام الانحلالية تشوه الخيال، وتسمم الذاكرة، وتضخم الجانب البهائمي في الإنسان، وتشتت النفس، وتفرّق القلب، وتعمق كراهية الذات، وترسخ تأنيب الضمير، وتصرف عن الفضائل، وربما تضرر منها صاحبها بعد زواجه، لتشبّعه بصور مصنوعة، ومشاهد تمثيلية مضللة لواقع الأمر. والذي ينبغي توقيه=أن يكون الولوغ في هذه القبائح داعياً للتحلل الجزئي من ربقة الشريعة أو أكثرها، وهذا مشاهد، والعاقل يزن الأمور بمقياس الشرع لا باستشناع العوائد، ففعل العادة السرية مثلاً ليس من الكبائر ولا قريب منها (وليس المراد التهوين من شأن الخطيئة وإنما بيان درجات المخالفة)، ويقلّص المبتلى بها من آثارها بقطع ربطها بمشاهد مخلة، ولو تخيّلاً، وتقليل فعلها إلى أقل ما يمكنه، وكذلك النظر المحرم.

ويكاثر الانسان هذه السيئات بالطاعات المكافئة، وملازمة أهل الصلاح، والمسجد، وبالدعاء، ثم ليكافح الفراغ بصرامة = وهو علّة مفسدة جداً، وكل من يعاني في هذا الباب فغالباً -بل أكاد أجزم- أنه يقضي أوقات فراغ كبيرة، وليس له عمل جاد (بل ولا هازل)، فالفراغ مع اشتعال الشباب، وقرب المثيرات، تؤدي لمواقعة المحظور ولابد، إلا إن وفق الله المرء بإيمان عاصم.

(6)

إن قلة العلم، وضعف التصورات الشرعية، ووهاء اليقين، مع اطلاع متواصل على كل ألوان “الجدل” والصراعات في المواقع الاجتماعية وغيرها، وفي الفضائيات، ثم الكتب= في الفكر، والتاريخ، والسياسة، وأصول الشريعة وفروعها، كل ذلك يوفر البيئة الخصبة لولادة شخصية علمية وفكرية مرتبكة مضطربة، تتبع كل ناعق، وإذا انضاف لذلك الولوغ في المحرمات والجرأة على الخطايا مما يضعف البصيرة أو يعميها، ويقطع مادة التوفيق فالأمر إلى شر ولابد.

والعلم بالحق والتيسير لاتباعه لا يكون بمجرد المعرفة، بل يكون أولاً وأخيراً بلطف إلهي محض، ودلالة ربانية، فالقلب الملوث بالذنوب لاتنطبع فيه الحقائق الدينية بصورتها الناصعة.

ثم إن كثيراً من الناس لايدرك بؤس الحيرة ولا ذاق عذاب الشك، فيدخل إلى مظان ذلك ثم يبتلى.

 وأكثر ما أعجب منه أولئك الناس من ضعاف العلوم والعقول الذي يفتحون الحسابات وربما المواقع للرد على أهل الباطل (ملاحدة أو رافضة أو ما شئت) وهم لا يملكون شيئاً مما يؤهلهم لذلك، ولابن تيمية قول فاضل مشهور في هذا المعنى:

“ليس كل من وجد العلم قدر على التعبير عنه، فالعلم شيء، وبيانه شيء آخر، والمناظرة عنه شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفه شيء رابع”

وأكثر أولئك ليس عنده العلم، فضلاً عن التعبير عنه، بله ما بعد ذلك!

وكون الباطل باطلاً لا يعني سهولة الرد عليه، فكل أصحاب مذهب لديهم حججهم وشبهاتهم وكثير منها يحتاج نقضها لعلم واطلاع وبلاغة، وبعض من ألحد -ممن يدرس في الخارج أو نظر في أطروحة فاسدة هنا أو هناك- كان يقينه المفرط من غير علم يدفعه لمقارعة بعض الملاحدة والنصارى -ثقة منه بدين الاسلام- فلا يلبث أن تُلقى عليه الشبه فيعْلٓق بعضها في قلبه، فتكون سبب هلاكه، وهذا له نماذج متعددة.

ويكفي المرء المعرفة بأن المذهب الفلاني باطل بالجملة، وهذا ينجيه عند الله، فإن أراد المرتبة العليا في بيان الحق وإظهاره فليتعلم، وليطيل البحث على سمت أهل الفن، ثم ليتكلم بعد ذلك بما شاء، والسلامة لا يعدلها شيء، فالباطل أكثر من الحق، لأن الباطل مذاهب لا يحصيها إلا الله، أما الحق فواحد في الأصول بلاريب، والخواطر والإيرادات الباطلة على القرآن والسنة لا تتناهى مادام الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

ومن جهة ثانية، إذا نظرت في الخلافات بين المنتسبين للعلم، وفي ردودهم وكلامهم في مخالفيهم؛ تجد الجهل والبغي والتشاتم والرمي بالبوائق، والتصنيف والتشنيع، والمتابع لكل ذلك غالباً لا يدري الحق مع من، ولا يدري تفاصيل المسائل ولا أدلتها، وكثيراً ما يتبع الناس في مسائل الاختلاف هذه = أهوائهم وأذواقهم، فالكلام الحسن أهم عند أكثر الناس من الحجة القاطعة، والعبارة الذكية مقدمة عندهم على الدليل الواضح، بل يترك عامة الناس صاحب الحق لشراسته، وقد يتبعون المبطل لتلطفه (وليس المراد نقد التلطف ولامدح الشراسة طبعاً وإنما بيان تأثير الذوق على الحقيقة).

وطالب العلم والمتابع إذا أراد الحق في هذه الصراعات والخلافات عليه أولاً أن يدرك جملة أمور:

١- وهو من أعظم الحقائق: العلم بأن الأقوال في غير أصول الشريعة وفروعها البينة، وفي النوازل، يقع فيها كثيراً اختلاط الحق والباطل، والخير والشر، وكذلك في الأشخاص والمواقف، فلا يتمحض الحق غالباً في ذلك، بل يكون مختلطاً، فتجد البعض ينظر لجانب الحق فيبالغ في المدح، والآخرون ينظر لجانب الباطل فيبالغون في القدح، فينشأ من هنا الظلم والجهل. ولا يوجد شيخ ولا عالم فمن دونهم ليس عليه انتقاد في قوله أو فعله، بحق وبباطل، والغالب أن أهل العلم يغلب عليهم الصلاح بالجملة، وأهل الفساد يغلب عليهم الباطل بالجملة، وبينهما مراتب عظيمة، فمن كان لا ينظر إلى الناس إلا باعتبارهم ملائكة أو شياطين؛ فهو جاهل بالشريعة والطبيعة -وهذا حال كثير من الشباب، لغلبة الاندفاع على طبائعهم، وحدة أمزجتهم- كيف ونحن في آخر الزمان وأحوال الناس في غاية الاختلاط، مع انتشار الفتنة، وغلبة العدو، وكثرة الجهل.

٢- أن البغي والبهتان شائع في الناس منذ الزمن الأول، فلا يطول عجبك في ذلك، فأنت ترى كيف يقع البغي الكثير على بعض أهل (الباطل) فلا يجرّنك ذلك لاعتقاد ذلك الباطل، فبعض الناس لقلة بصرهم وشدة محبتهم للرقة والتلطف قد يشفق أحدهم على المبطل فينتصر له، ويدافع عنه أولاً بالحق، ثم ما يلبث إلا ويعتقد بما معه من باطل.

٣- أن الانفكاك والانعتاق من التعصب والتحزب شائق عسير، والإنصاف يكاد يضمحل بالكلية، والنفس مطبوعة على الظلم والبغي، فإن لم يجاهدها الانسان في كل كلمة، زادت، وطغت، والحكم على الناس أو اتخاذ مواقف تجاههم في العقائد أشد من عمل القضاة في الأموال والأنكحة. ثم إن نفس الإنصاف والعدل لا يتحقق بمجرد الرغبة فيه، والدعاوى، وإنما بتمحيص النظر، وتطويل التأمل، وكمال الصدق، وإخلاص الطلب، وتمام المكابدة.

٤- في غير أصول الشريعة والفقه الذي يلزمك لصلاح أمر دينك = لا تقلد أحداً -حتى ممن تثق به- في ذم فلان أو علان، ما لم يتبين لك أنه كذلك يقيناً، وكما يقول الشيخ محمد الحمد:”لابأس أن تكون في الحب مقلداً، أما في البغض فلا يسعك إلا أن تكون مجتهداً اجتهاداً مطلقاً”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s