السيطرة الغامضة


في دراستها لآليات إنتاج السلطة تتحاشى الباحثة الأمريكية ليزا وادين في أطروحتها للدكتوراه في العلوم السياسية الانطلاق أو التأسيس النظري من خلال مصطلح “الشرعيّة” الشهير، وإنما تذهب في أطروحتها هذه لبحث آليات لغوية ورمزية أكثر تركيباً لإنتاج التحكم السلطوي الاجتماعي.

ومن خلال بحثها الميداني الذي دام بضعة سنوات في سوريا واطلاعها على أعداد غزيرة من منتجات النظام الإعلامية (الصحافة بالذات)، وعبر مقابلات كثيرة أجرتها مع شخصيات من مختلف الشرائح والطوائف = لاحظت تمظهرات عديدة لسياسات تعتمد على تكريس ظاهرة تقديس الحاكم والنظام، عبر الكرنفالات الكثيرة والمملة، والشعارات، والكثافة الكبيرة للتماثيل وصور القائد، وعبر إرغام الناس على الاعتراف العلني المستمر والإشادة المستديمة بالنظام في أي مناسبة، مع التفنن في ذلك، مثلاً يحكى أن أحد الضباط في الجيش الأسدي أمر الجنود في صبيحة يوم ما بأن يقصوا عليه ما رأوه في أحلامهم في الليلة السابقة، وتنوعت حكايا أحلام الجنود وهي تدور عن رؤيتهم للقائد في السماء، أو قابضاً على الشمس…الخ، مع معرفة الجميع (أو الأغلب) واعترافهم في كل المشاهد السابقة من الاحتفالات العامة إلى رؤيا الجنود أن النفاق هو سيد الموقف، وسعت الباحثة للإجابة على هذا السؤال المركزي في أطروحتها:

لماذا يخترع نظام الأسد سياسات متعددة تعتمد إجبار المواطنين على إظهار الولاء الخارجي والذي يتطلب نفاقاً واضحاً؟ بدلاً من الاهتمام بمخاطبة القناعة الداخلية للناس، لتعزيز الولاء؟، إنها سياسات تظهر المواطن “كما لو” أنه يدين للسلطة والنظام بالولاء.

يصعب اختزال الإجابة على سؤال متشابك كهذا، ولكن يمكن اقتباس ملخص للإجابة في أقوال الباحثة:

 (الاعتراف المشترك بالطاعة الإجبارية هو ما يجعل ظاهرة تقديس الحاكم قوية، أي أن ظاهرة تقديس الأسد قوية لأنه لا يمكن تصديقها)

 ولأن الناس يتعاملون في هذه “الاستعراضات” مع الأسد باعتباره قوياً، وبذلك يساعدون على جعله كذلك بالفعل.

(وكلما زادت درجة سخافة الأداء المطلوب برهنت بجلاء على أن النظام يمكنه جعل أغلب الناس يطيعون في أغلب الأوقات)، (وإذا كانت ظاهرة تقديس الأسد تضبط المواطنين من خلال استمرار البرهنة على الطاعة الخارجية، وإذا كانت الطاعة الخارجية تعتمد على الامتثال الواعي للسلطة فإن إدراك الشروط المشتركة لعدم التصديق يعيد إنتاج هذا الوعي الذاتي الذي من دونه لا يمكن إدامة سياسة “كما لو”).

وبالعموم فالقول بأن خضوع الناس لسلطة ما بسبب الخوف، أو الرغبة بالحصول على المصالح، أو لأنهم يؤمنون بقيم وأعراف ومعايير يعمل على أساسها النظام الذي يمتثلون له، كل ذلك يعتبر إجابات تفسيرية جيدة، ولكنها ناقصة، وتفشل في فهم مجمل التركيبة المتداخلة لعمل الرموز واللغة في صوغ الموقف من السلطة والانضباط، فتشير التجربة السورية –كما درستها الباحثة-إلى أن ممارسات التقديس والنفاق العلني بشتى مظاهره وتجلياته تساعد على تأكيد الطاعة الاعتيادية للناس، وتحدد شروط امتثال المواطنين.

كما يمكن توسيع النتائج في هذه الأطروحة وتشغيلها في نظم أخرى لأجل تطوير الفهم لسياسات النظم العربية الشمولية وطرائق إنتاجها للسلطة الانضباطية. 

صدر البحث بلغته الأصلية في ‪1999‬م وترجم عام ‪2010‬م ونشرته دار رياض الريس، ويقع في أكثر من ‪300‬ صفحة، وهو بحث ممتع وثري.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s