يقول سينيكا:”تزدهر الروح وتمرح حين تضعف صلتها بالجسد”، ويؤكد تولستوي:”ندين لكبارالسن بالرقي الأخلاقي في عالمنا”. ويذهب ڤواندو إلى الاعتقاد بأنه:”كلما دنا الجسد من سقوطه ارتقت الروح إلى ذروتها”. وفي ذات الصدد يقول أوليفر ساكس عالم الأعصاب الشهير ت2015:”كثيرًا ما قال والدي، بعد أنْ عاش إلى الرابعة والتسعين : إنَّ عمر الثمانين هو من أمتع سنوات العمر! لقد شعُرَ، كما بدأتُ أشعُر، بأنَّ الحياة العقلية والنظرة تتَّسع ولا تنكمش”. بل حتى كاتب منحلّ كهنري ميلر كان يرى أنَّ الحياة السعيدة تبدأ في الثمانين!تبدو هذه الأقوال غريبة بعض الشيء، وليس بإمكاننا التأكد من حقيقتها. وتذكرت وأنا أكتب الآن تمني عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أن يسمع توصيفاً دقيقاً لأكثر الحالات الإنسانية غموضاً، وهي حالة الموت، يقول عمرو:”لوددت لو أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت”. قالوا: فلما نزل به الموت، قيل له: يا أبا عبد اللّه كنت تقول أيام حياتك لوددت أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت يخبرني عن الموت، وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم، وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه. فقال: (أجد كأن السماوات انطبقن على الأرض، وأنا بينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب إبرة).
والقصد أننا نتوق لمعرفة نوع الإحساس وطبيعة الشعور الواقع على النفس في بعض الحالات الإنسانية النادرة من شخص معايش لتلك اللحظة، لا سيما إذا كان يتمتّع بقدرة ممتازة على الوصف مع دقة الملاحظة وجودة الذهن، ولذلك يسأل الناس الشاعر مثلاً أو الأديب عن شعوره الأول بالأبوة، أو عن تجربته مع الحب، لأنهم يعتقدون أنه سيقدم هذه المعاني الشائعة بطريقة أكثر حيوية، وأعمق شعرية، وأبعد رمزية، فكيف إذا مرّ الشاعر بتجربة نادرة، ستتعاظم الرغبة حينها في معرفة تعبيره عن تلك التجربة.
وقرأت مرةً لجلال أمين وهو يذكر كيف أنه في شبابه كان يتعجّب من بعض أمزجة كبار السن، مثل الرغبة المبالغ فيها بالهدوء، مع الولع أحياناً باستدامة الصمت، والاستغراق في التأمل الطويل والممل، يقول فلما أصبحت من كبار السن، عرفت أني استمتع بصورة غامضة بالجلوس وحيداً، في مكان شديد الهدوء، ولأوقات ليست قصيرة، ومن غير أي عمل.
من سيكتب له البقاء حتى سن متأخرة، سيختبر هذه المشاعر بنفسه. أطال الله عمرك على الخير.