لماذا يتراخى البعض عن نصرة المظلوم؟

أحد النماذج التفسيرية المهمة التي تفسّر سلوك عامة الناس المتواطئ حيال مظالم وانتهاكات السلطة، أية سلطة، السياسية، أو الأكاديمية، أو الاجتماعية؛ هو”الإيمان العميق بعدالة الواقع“.

وهذا يعني أن معظم الناس حين يواجهون أو يسمعون حادثة قمع أو انتهاك من نوع ما لشخص، (مثل اعتقال شرس لجهة أمنية، أو حادثة تعذيب لمتهم، أو قرار أكاديمي يضرّ بطالب أو دكتور ما، أو فصل موظف من عمله، أو سلوك أب يضرب ابنه أو ابنته بقسوة في مكان عام) لدى معظم الناس شعور واضح حيال ذلك، وهو شعور باستحقاق الضحية لما تتعرض له، وأنها ولابد قد ارتكبت جرماً ما، يخوّل عقوبتها على هذا النحو. هذا إيمان ما ورائي/ميتافيزيقي بعدالة الواقع، مع الجهل المطبق بالمعطيات اللازمة للحكم الأخلاقي -على الأقل-.

وهذه القناعة ناتجة عن ضرورة إنسانية دفينة، ضرورة لعقلنة الظواهر، وجعلها مفهومة، وإرساء نظام ثابت من المعاني، يتيح إنتاج الروابط المنطقية، والمباشرة، إزاء الظواهر. هل يمكن أن تعذب الشرطة أو تعتقل رجلاً بريئاً تماماً؟ هذا الإيمان يرفض هذه الإمكانية بانتهاك حق الحرية والأمان تجاه البريء، لأن القبول بها يعني إفساد النسق الدلالي للأشياء، وثبوت هذا النسق هو ما يمنح العقل الشرعية لفهم الأمور، والجنون ليس سوى تدمير هذا النسق المترابط.

أيضاً، كون الشرطة تعتقل المجرمين، هذا ثابت دلالي لا يحتاج إلى برهنة، وإذا أفسدت هذا الثابت، وقلت بأن الشرطة تعتقل الأبرياء، ستحتاج مصفوفة براهين، ودلائل قاطعة، وهذا في أكثر الأحوال غير متوفر. وربما يعتمد الناشط الحقوقي على معرفته العمومية، وخبرته السابقة، ليوجّه للشرطة الاتهام بالاعتقال لغايات سياسية، أو لتصفية حسابات شخصية، أو لمجرد بثّ الرعب. ولكن لا تنجح هذا الاتهامات أحياناً، لشح معلوماتي معتاد، بفعل سيطرة السلطات على مصادر المعلومات.

وهذا الاعتقاد بعدالة المجريات يولّد شعوراً بالطمأنينة والأمان لدى الجمهور، فما دام أحدهم لم يذنب فهو متأكد بأنه لن يكون ضحية يوماً ما لقهر السلطة.

وأيضاً مما يساهم في تكريس تلك القناعة، أن السماح بتمدد هذه الإمكانية (إمكانية تعسف السلطة/المعتدي) سيضاعف الحمل والمشاق المعنوية على الضمير، وستنبعث الإرادة الخيرة لمهمة الدفاع، وهذا دفاع أو احتجاج شائك، وخطر. إذاً فلتتمسك بالإيمان الكفيف بعدالة الواقع، وأن من يعاقَب، هو بالتأكيد مجرم، بصورةٍ ما، لتتخلى عن متاعب تمحيص الحقائق، والفهم النافذ للظواهر المعقدة. وقد أشارت د.بسمة عبدالعزيز في كتابها (ذاكرة القهر) لجوهر هذه الفكرة.

علي عزت بيجوفيتش دوّن ملاحظات مهمة بهذا الشأن في كتابه (هروبي إلى الحرية)، يقول ما ملخصه:

“يحدث كثيراً أن ينظر عامة الناس إلى المتهمين بجريمة سياسية على أنهم مذنبون، وذلك لأسباب أنانية، فالناس لا يقبلون حقيقة أنهم يعيشون في عالم/مجتمع لا يُحمى الإنسان فيه بالقانون، ولهذا يفضلون تصديق أن هؤلاء المحكوم عليهم مجرمون، وإلا لما حوكموا، وكلما كانت العقوبة أشد وأقسى، كان الأسهل أن يفرض الاستنتاج السابق نفسه على المرء، ففي حالة غياب الدليل تصبح العقوبة القاسية هي الدليل على وجود جريمة. هكذا يفكر عامة الناس. وهذه حيلة قديمة لجأ إليها النازيون أيضاً، وذلك بإيقاع العقوبات الوحشية في معسكرات الاعتقال. لو لم يكونوا خونة ما كانوا ليعاملوهم بهذه الوحشية، إنهم خونة. هكذا كان يفكر عامة الألمان!”.

7 رأي حول “لماذا يتراخى البعض عن نصرة المظلوم؟

  1. إن مما يسعد المبطل أن تمر أفكاره الباطلة -شرعا وعقلا- بلا ممانعة ولا مقاومة ولا توقف عندها- ليس لحق فيها- بل للتهويل المصاحب لها، والترهيب للناس من مخالفتها، وتصنيفهم، واسترهابهم بسوط الوطنية والاستعداء -غير المشروع- للسلطة.

    مثاله:
    الاستعداء المجحف على الدعاة والمصلحين والناشطين من خلال الحسابات السوداء.

    Liked by 1 person

  2. جزاك الله خيراً

    يمكننا القول بأن هؤلاء الناس عمدو لإسناد المُثُل إلى الواقع ..ربما لكي يدنوها منهم ( نزعة مادية ) ..لكن التجسيد المادي للقيمة المطلقة بوضعها في قالب متقلب بطبعه أنشأ تناقض….و ربطهم القيمة بالشخص أو المؤسسة جعلهم ينسدون أي فعل خاطيء للمؤسسة ( خاطيء موضوعيا .. فهم لا يرونه خطأ )إلى هدف آخر سيظهر تماشيه مع القيمة في زمن ما .
    و لا سبيل لحل التناقض إلا بإطلاق القيم المطلقة و الالتزام بالاعتراف الدائم بالنقص البشري مع وجود النزعة الأخلاقية فيه.

    إعجاب

  3. جزاك الله خيراً

    يمكننا القول بأن هؤلاء الناس عمدو لإسناد المُثُل إلى الواقع ..ربما لكي يدنوها منهم ( نزعة مادية ) ..لكن التجسيد المادي للقيمة المطلقة بوضعها في قالب متقلب بطبعه أنشأ تناقض….و ربطهم القيمة بالشخص أو المؤسسة جعلهم ينسبون أي فعل خاطيء للمؤسسة ( خاطيء موضوعيا .. فهم لا يرونه خطأ )إلى هدف آخر سيظهر تماشيه مع القيمة في زمن ما .

    و لا سبيل لحل التناقض إلا بإطلاق القيم المطلقة و الالتزام بالاعتراف الدائم بالنقص البشري مع وجود النزعة الأخلاقية فيه.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s