حرفة الجاهلين..الدلالات الاجتماعية للسخرية

لا يملك المتأمل في مجريات الصراع بين الأنبياء والمناوئين لهم في قصص القرآن ووقائع السيرة الشريفة إلا أن تستوقفه أنماط من السلوكيات والممارسات التي واجه بها أعداء الحق رسالات التوحيد، لاسيما تلك الممارسات الثابتة المتكررة التي باتت تشكل البنى الأساسية للخطاب المضاد لرسالات الله عبر التاريخ البشري المديد، وقد جاء الوحي بكشف وتعرية ذلك الخطاب وتلك البنى الفاسدة، كما أوضح الوحي في مواضع كثيرة الخلفية التاريخية لبعض تلك الممارسات. وسأتعرض هنا لأحد تلك الأدوات التقليدية في مواجهة الرسل ودعوات الإصلاح وبعض دلالاتها الاجتماعية والنفسية.

يقول الله تعالى:(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، ويقول:(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، وفي موضعين آخرين يقول سبحانه لرسوله الكريم:(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ). تفيدنا هذه الآيات ومثيلاتها رسوخ خطاب السخرية والتهكم والاستهزاء في المنظومة الإعلامية والثقافية المناكفة لدعوة الحق، ولذلك يتوجب التنقيب الفاحص للإجابة عن تعليل رسوخ الخطاب الساخر من الحق وأتباعه في ألسنة المخالفين، وانعكاسات التهكم والاستهزاء على السياق الاجتماعي وأجواء الصراع.

(1)

كتب الفيلسوف الانجليزي سلي Sully:”إن الضحك عامل صراع يساعدنا على أن نجاهد في سبيل استبقاء الحياة الجمعية على ما هي عليه، لأنه يسمح لكل جماعة بأن تحافظ على كيانها في حدود تقاليدها وعرفها”. إن السخرية والتهكم -ككل خطاب- تستبطن اعتقاداً معيناً، وموقفاً محدداً؛ إزاء ظاهرة أو واقعة اجتماعية ما، وهي تعمل على إضفاء التماسك الاجتماعي، من خلال خلق شعور موحد تجاه المستجدات في واقع الجماعة، ولذلك تتصاعد وتيرة السخرية والاستهزاء عند اندلاع الأحداث الكبيرة التي تهدد البناء الكلي للجماعة، وهويتها، ووجودها، وتماسكها وطمأنينتها، وهذا التحليل السوسيولوجي للسخرية نجده ماثلاً في واقعنا العربي الراهن، فهناك علاقة وثيقة يمكن إدراكها بين حدوث الأزمات والنكسات وحالات الارتباك الاجتماعي من المتغيرات المتسارعة وبين ما ينتج عن ذلك من تصاعد معدلات السخرية وتداولها، وذلك لتقوم السخرية بوظيفتها في إعادة تراص البنى الاجتماعية التي لحقها زلزال الأحداث، والتخفيف من وطأة الشعور بالأزمة، ومن الأمثلة المعاصرة ذيوع السخرية السياسية في أعقاب نكسة 1967م، وكذلك ازدهار المسرح الكوميدي في الستينات وسبعينات القرن الماضي في بلدان الخليج، والذي جاء كرد فعل على تأثيرات انهمار الثروة النفطية على البنية الاجتماعية، ومؤخراً أجواء السخرية الصاخبة عبر تمظهراتها المتعددة في الهتافات والمنشورات والمقاطع المرئية وشبكات التواصل الاجتماعي التي رافقت نشوب الثورات العربية. وللسخرية وظائف اجتماعية أخرى بطبيعة الحال، وبعض هذه الوظائف تختلط فيها البواعث النفسية بالظروف الاجتماعية، وستأتي إشارات لذلك بإذن الله.

(2)

إذا عدنا إلى تأمل تجذر خطاب السخرية في معارضة الرسل فإننا سنعثر على مصداق الرؤية السوسيولوجية التي أشرتُ إليها آنفاً. إن دين الله واعتقاد التوحيد يأتي لقلب المفاهيم السائدة، والثورة على المعتقدات الشركية التقليدية، وإعادة تنظيم المجتمع، وترسيخ نموذج قانوني جديد يحكم علاقات المجتمع البينية، ويصنع رؤيته الجديدة لنفسه وموقعه من الكون والمجتمعات الأخرى، ودوره في حمل راية الإصلاح والدعوة، بوصفها واجبات إلهية.

لنقرأ مثلاً تجليات هذا الانقلاب الاجتماعي في التجربة القرشية، وذلك في خطاب بعض رجالات قريش للطفيل بن عمرو رضي الله عنه لما قدم مكة، وكان للطفيل مكانة ثقافية وحضور اجتماعي كما وصفته بعض كتب السير بأنه “رجل شَرِيف وشَاعِر لَبِيب” وهذ ما دعا رموز قريش لتكوين حصانة وممانعة نفسية لدى الطفيل خوفاً من عواقب إسلامه، فقالوا له:”يَا طُفَيْلُ، إنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا [أي اشتد أمره بنا]، وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتْ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا..”، وهنا تلمس في حديث كفار قريش شدة تأثرهم باختلال الحالة المجتمعية، وتفرق الشمل، جراء الدعوة الإسلامية الصاعدة، وتجاوباً مع الدوافع الواعية واللاواعية سلّط رموز الكفر القرشي الخطاب الساخر ضد دعوة النبيلرأب الصدع الاجتماعي، وإعادة التماسك للجماعة الكافرة.

ونقلت لنا كتب السير بعض صور السخرية التي عانى منها النبي مثل ما جاء أن الأسود بن المطلب وأصحابه كانوا يتغامزون بالنبي وأصحابه، ويقولون: «قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر»، ثم يمكّون ويصفرون، وما جاء عن ذلك الرجل الذي يمشي خلف النبي و يحاكيه ويقلده ويلمظ بلسانه على سبيل الاستهزاء، والآخر الذي كان يجْلِسُ إِلَى النَّبِيِّ  فَإِذَا تَكَلَّمَ النبي بِشَيْءٍ اخْتَلَجَ بِوَجْهِهِ ، وغير ذلك. وهذه المحاكاة والسخرية الدرامية الوقحة وغيرها من أدوات الاستهزاء كانت تدخل الضيق على نفس النبي ، وهذا الضيق وما يتبعه من الانقطاع عن الدعوة أو تحاشي الصدع بها من أولى مقاصد القوم الكافرين، ولذلك جاء الوحي في مناسبات كثيرة بتسلية الرسول الكريم :(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).

(3)

يعتقد الطبيب النمساوي والمُعالج النفسي ألفريد أدلر (ت1937م) أن السخرية خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز: فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا تجرأ الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، انبعثت فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا، أو ممن أثاره في نفوسنا. ويشير إلى أن الاستهزاء والتهكم لا يخلو من عنصر الزهو، لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها. بينما يرى الفيلسوف الوجودي كيركجارد (ت1855م) في كتابه “مفهوم التهكم” أن التهكم ينبعث من “عدمية” وسلبية، ولكنه وسيلة للاستمتاع والوصول إلى حالة من الرضا، فعند التهكم والسخرية الفاقعة نضع مسافة بيننا وبيننا ما نسخر منه أو ننظر إليه من أعلى، ونتحرر من المنظور الأخلاقي والمسئولية تجاه ما يحدث. وهذا الشعور الداخلي بالرضا والزهو أحد بواعث السخرية من دعوة التوحيد والحق في نفوس المخالفين، وذلك للتغلب على مشاعر الشك والارتياب الممضة، ولتكريس دونية حامل الرسالة، وما ينجم عن ذلك من اعتقاد عدم جدارة الرسالة نفسها بالاتباع. وكان صناديد الشرك يستدعون خطاب السخرية عند رؤيتهم لكل آية جديدة أو معجزة باهرة أو حجة قاطعة جاء بها الوحي. يقول تعالى مبيناً حالهم حين تقام عليهم الأدلة وتُذكَر الآيات التي يخضع لها الألباء:(وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)[الصافات:14]، أي أن الكفار عند رؤيتهم للآيات “يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها”. إن استدعاء الضحك والسخرية عند ورود الآيات ينطوي على عملية تجاوز للشعور بالنقص أمام وهج الحق، ومحاولة تعويضه بشعور وهمي بالتفوق، فهم يتضاحكون لإظهار تفوقهم، وكأنهم أمام أباطيل ضعيفة ومتهافتة لا يملك المرء حيالها إلا الانفعال الضاحك.

(4)

ويكتسب خطاب السخرية تأثيراً مهماً ويؤدي دوراً فاعلاً في السياق الاجتماعي إذا مورس بكثافة في الفضاء العام، وتم تطبيع تداوله بين الجمهور الشعبي، لاحظ كيف يبين القرآن سلوك المشركين في هذا الصدد. يقول الحق تعالى:(وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)[الفرقان:41]. وكأن صورة المشهد تتراءى أمام ناظريك، فهذا النبي r يقبل لبعض شأنه، فيمرّ بنوادي المشركين في مكة، وقد اجتمعوا كعادتهم يتفاخرون ويتناشدون الأشعار، ويتدبرون المكائد لمواجهة دعوة التوحيد، فما إن يروا تلك الطلعة الشريفة إلا ويبادرون إلى الاستهزاء والتهكم، وتأمل صيغة الحصر (إلَّا هُزُوًا)، فقد “انحصر اتخاذهم إياه في الاستهزاء به، يلازمونه، ويدأبون عليه، ولا يخلطون معه شيئاً من تذكر أقواله ودعوته”، فلا تراهم يذكرون حججاً و لا براهين، ولا يناقشون شبهات، وإنما يقتصرون على فعل السخرية والاستهزاء، في أجواء جماهيرية صاخبة بالضحك. وهكذا “فإنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة”. وفي الآية الأخرى يقول سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) يقول البقاعي رحمه الله (ت885هـ):” أي يجددون الضحك كلما رأوهم أو ذكروهم استهزاء بهم وبحالاتهم”. وهنا يمكن أن نستعين بآراء مؤسس علم سيكولوجية الجماهير غوستاف لوبون (ت1931م) الذي يعتقد أن الأفراد العاديين أياً ما كان مزاجهم واهتماماتهم حين يتحولون إلى جمهور في مكان ما يكسبهم هذه التجمهر “روحاً جماعية”، تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي يفكر ويحس بها كل فرد لو كان معزولاً، وتنخفض تبعاً لذلك قدرات الفرد النقدية، وتتلاشى الشخصية الواعية، وتهيمن العواطف، وتخضع “الروح الجماعية” لتحريضات وإيعازات القادة المحركين للجمهور بسهولة، وفي ظل هذه الظروف يمكن للفرد ترديد أفكار وشعارات ربما لا يؤمن بها بدرجة كافية، والقيام بأعمال وسلوكيات استثنائية، من المستبعد أن يعملها بمفرده، وحتى العواطف في اللحظة الجماهيرية تتخذ طابعاً متطرفاً، فكما يقول لوبون”الشعور البسيط بالنفور من شيء أو عدم استحسانه يظل في حجمه الطبيعي لدى الشخص العادي، ولكنه يتحول مباشرة إلى حقد هائج لدى الفرد المنخرط في جمهور”. وإذا استدمجنا هذه الآراء في تحليل التجمهر الساخر الذي يمارسه كفار مكة باستمرار يتضح أهمية الاستهزاء في تدعيم موقف المعارضة للرسالة الخاتمة، وتثبيت سيادة العواطف الضاحكة في الجمهور المكي لترسيخ البناء الاجتماعي الداخلي، وإقصاء الملكة النقدية والحجة العقلانية التي كانت تصب في مصلحة الدين الجديد.

(5)

يقول توماس هوبز (ت1679م): «ليست شهوة الضحك إلا اعتزازاً مفاجئاً، وفي هذا الشعور بالاعتزاز تكمن قضية الافتخار بالنسبة للآخر، إننا حين نضحك منك (عليك)، فإننا نسخر منك، ننتصر عليك، ونحتقرك». يحكي القرآن عن مشركي مكة أنهم قالوا على سبيل الاستصغار والاحتقار لمقام النبي :(أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)، وترى أن هذه الجملة لا يراد منها إحقاق حق، ولا مناظرة لدفع باطل، وإنما لانتزاع الضحك البارد من أفواه الكفرة المجتمعين هناك. ويمكن القول أنه -في أحيان كثيرة- لا يمكن فصل مشاعر السخرية عن رغبات الاحتقار والمقت، والكراهية، بل أحياناً تبدو السخرية والتهكم بوصفها معركة لغوية أو فنية تستهدف القتل المعنوي، والإعدام الرمزي للشخص موضوع السخرية، أو لفكرة أو اعتقاد أو رأي معين. وهذا ما تتابع عليه أعداء الرسل، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ). وهكذا النفس البشرية إذا شعرت بوطأة سلطة معنوية قاهرة كما هو حال كفار قريش مع سلطان الوحي، أو سلطة مادية متجبرة لربما بادرت باحتقارها والسخرية منها، وذلك لأن السخرية سلاح شخصي يلجأ له المرء حين يفقد أسلحة المقاومة الأخرى، وهي تكسبه مناعة داخلية ضد الخضوع لتلك السلطات القوية.

(6)

وإذا نظرنا إلى زاوية أخرى من التجليات الاجتماعية للسخرية وهي تلك التي تتصل بترويج المعاني الباطلة والاعتقادات الفاسدة عبر أدوات التهكم المسموعة والمرئية والمكتوبة، سنلاحظ أن استرواح النفوس العاطلة عن معالي الأمور إلى السخرية والضحك والتهكم وتطلّبها والبحث عن مظانها يدفع رؤوس الشر إلى استثمار ذلك في تمرير المعاني الفاسدة والمستقبحة عبر بوابة الضحك، وهذا يعود بالأساس لكون توظيف هذه الوسيلة (الكوميديا/الفكاهة) يلاقي رواجاً اجتماعياً، ويحظى بتقدير شعبي، وهو يضعف مناعة الجمهور المتلقي من تبيّن فساد المضامين، فيتسلل الباطل في أجواء القهقهة دون كلفة. ويمكن ملاحظة ذلك في الدراما الكوميدية المعاصرة. ففي الولايات المتحدة -مثلاً-كان الشذوذ الجنسي يحظى برفض شعبي، من فئات وطوائف مختلفة، وتدريجياً بدأت الممانعة تخفت واتضح ذلك في أواخر القرن الماضي، وكان للدراما دور مهم في تطبيع الشذوذ الجنسي واعتباره اختيار شخصي محترم، فقد كان آدام ساندلر الكوميديان الأمريكي المعروف -مثلاً- يعمل في أغلب أفلامه على تطبيع الشذوذ، وذلك بتقديمه في إطار كوميدي، وكذلك فعلت بعض أفلام عادل إمام في تكوين صورة نمطية ساخرة ومبتذلة للشخصية الملتزمة بالإسلام. لقد قامت الدراما الكوميدية بنقل وصف (الإرهابي) من المحتل إلى المقاوم المسلم، وفي أمريكا نقلت وصف (الشاذ) من الرجل أو المرأة الشواذ، إلى (الطبيعي) الذي يحاربهما. “لقد نجحت الكوميديا فعلاً في قلب مفاهيم كان يبدو استحالة قلبها منطقياً!”. وكذلك نجد الأمر متشابهاً في أعمال الكاريكاتير الساخرة، والتي يتم توظيفها في الصراع ضد الحق، وأتباعه.

(7)

ثم إن للسخرية انعكاسات بالغة الخطورة على فاعل السخرية نفسه، فالاستغراق في فعل الاستهزاء والتهكم من الحق ورجالاته يصنع في النفس حجاباً غليظاً يحول بينها وبين تقبل الحق، فامتهان السخرية يغري بتتبع عيوب المستهزئ به، والتنقيب عن عثراته، أو اختلاقها، وهذا التتبع والتنقيب يدخل فاعل السخرية في دوامة من الضحك والتهكم تصرفه عن التماس الحجج والنظر في البراهين. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى:( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

من أجل ذلك يتحسر الساخر على فعله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) لأن تفريط الغافل أهون من تفريط الساخر، فالساخر زاد على إعراضه عن الحق وترك العمل به السخرية به واحتقار أهله، وفي ذلك من الصد عن سبيل الله ما تغلظ بسببه العقوبة.

(8)

والسخرية عمل مهين لأنه يتولد من الجهل، وقلة العلم أو انعدامه، فهو لا يحتاج إلى آلة علمية، ولامهارة، ولا زيادة اطلاع، وقد علّق ابن عادل رحمه الله (ت775هـ) على الحوار الذي دار بين موسى وقومه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فقال:”وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازئ جاهل، فلم يستعذ موسى u من الشَّيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له”. فإذا جمع فاعل السخرية إلى الجهل رقة الدين وضعف العقل وهزال النفس؛ فقد كملت اللوازم وتهيأ لفعل الاستهزاء. أما العالم فيحجزه علمه عن تقحم هذه السفاسف، وهو إما أن يقف على حق فيبادر إلى اعتقاده ونصرته، وإما أن يواجه باطلاً فيرفضه وينقضه، ويبين أوجه غلطه وتهافته، وكذلك يكون صنيعه في الذوات الحاملة للباطل، وفي المعاني الفاسدة نفسها. وصنيع العالم في بيان غلط الباطل وبيان صواب الحق والاستدلال على ذلك أبقى في النفوس وأعلق بالقلوب من فعل السخرية، فالتهكم والاستهزاء وما يتبعها من انفعالات أعمال طارئة ومشاعر عابرة سرعان ما تذوب أمام شمس الدليل، وسكرة الضحك لا تدوم حتى يفيق المبطل راغماً على فكرة الحق.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s