الحزن الخبيث – لويس ولبرت

العنوان: الحزن الخبيث – تشريح الاكتئاب
المؤلف: لويس ولبرت
دار النشر: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة
سنة الطبع: 2014م

في كتابه “تشريح الكآبة” كتب بيرتون:(إنني أكتب عن الكآبة لتجنب الكآبة!). وقد أخذ ولبرت عنوان الكتاب الفرعي منه كما يبدو. لقد وصل عدد الأبحاث المنشورة عن الاكتئاب إلى 3000 بحث سنوياً، وهذا العدد يتضمن دلالة واضحة على خطورة الموضوع.

في كتابه هذا انطلق الدكتور والمختص بالتشريح والبيولوجيا التطورية ل.ولبرت من تجربته الشخصية المريرة مع الاكتئاب، وكتب مقدمة محبطة وبائسة لطبعة 2001م من الكتاب أشار فيها لعودة أزمة الاكتئاب إليه مرة أخرى، حتى أن أحد زملائه أشار عليه بأن يعاود قراءة كتابه هذا مجدداً!.

لابد من التشديد هنا على أن الاكتئاب المرضي ليس هو الحزن، والشعور العابر بالتعاسة، ويمكن تقريب الحالة المرضية المسماة بالاكتئاب من خلال ظهور أعراض مثل (الشعور بالذنب، الإرهاق، اضطراب الوزن بالزيادة أو النقص، اختلاف عدد ساعات النوم، فقدان القدرة على التركيز والتفكير، التفكير بالموت والانتحار، تقلص الشعور بالاهتمام والاستمتاع بأي شيء، والشعور بالتفاهة، واليأس…) وتستمر لمدة أسبوعين على الأقل.

تشير الدراسات إلى أن الاكتئاب عادة يهاجم ضحاياه في أواسط العشرينات من العمر. لماذا؟ ربما تكون هذا الفترة العمرية هي فترة “الاصطدام بحقائق الحياة”، فالطفل والمراهق مشغول بلهوه، ولا يفكر كثيراً لا مستقبله، ولا بتأمين مصدر رزق، ولا تكوين أسرة، ولا بطموحات من نوع ما، ومع أواسط العشرينات يكون أمام الانسان تحديد مستقبله بنفسه، بعيداً عن دعم من حوله، وقراراته يتحمل نتائجها شخصياً، ومع بدأ الوعي الحاد بمضي العمر وسرعة الأيام، يبدأ الشعور حينها بصعوبة الحياة، ومشقة التكاليف. ربما يكون هذا من مسببات انتشار الاكتئاب في هذه الفترة.

تحدث أيضا الكتاب عن تأثيرات تغيّر نمط الحياة المعاصرة ووتيرة السياق اليومي وانعكاسات ذلك على تزايد معدلات الاكتئاب، وكذلك آثار هشاشة العلاقات العائلية ونقص الحميمية، يقول ولبرت:”ثمة علاقة وثيقة بين الاكتئاب وغياب الدعم الاجتماعي والتعاطف العائلي”، كما تشير دراسات لانخفاض نسبة الانتحار لدى المتزوجين. ويبدو أنه هذه نتيجة متفق عليها. وهكذا تلاخظ عمق تأثير اضطراب الحياة العاطفية على الانسان، وعلى مجمل علاقته بالوجود، الذات/العالم/الهوية. وقد قام عالم النفس جيمس بنبيكر بتحليل 300 قصيدة لشعراء منتحرين (بعمر 30 – 58 عند الوفاة) وتسعة شعراء غير منتحرين، ويذكر في بحثه المنشور عام 2001م أن كتابات المنتحرين احتوت على كلمات أكثر تتعلق بالذات الفردية، وكلمات أقل تتعلق بالجماعية “الآخرين”، بالمقارنة مع غير المنتحرين، وهذا يعني أن الأفراد المنتحرين أكثر انفصالاً عن الآخرين وتشغلهم ذواتهم ربما بصورة مبالغ فيها.

يقول الشاعر ا.أرتود:(لا يوجد مبدع كتب، أو رسم، أو اكتشف أي شيء؛ إلا بدافع الخروج من تجربة مؤلمة!). وأجابت جاميسون جواباً جميلا ًعن سؤال علاقة الاكتئاب بالإبداع؟ بالقول أن “الاكتئاب مرض يجبر الإنسان على التوقف وتأمل حياته، والنظر في أعماقه نظرة وجودية مليئة بالتساؤلات عن ماهية الحياة، والهدف من الوجود”.

عرض المؤلف أيضاً لبعض الدراسات المتناقضة عن علاقة التدين في الاكتئاب، ولم يحللها بصورة مرضية (وهذا عيب متكرر في الكتاب، وهو حشد نتائج دراسات متعارضة بدون تحليلها ووضعها في سياقاتها). بدون ريب أن الاكتئاب مرض، وابتلاء من الله، وهو يصيب المؤمن المتدين كغيره، ولا يعصم منه أحد، واتجاه البعض لمداواة الاكتئاب المرضي بالرقية والذكر مثل اتجاه مريض السكر لعلاج مرضه بالرقية وترك الأدوية، وهو نقص في تحصيل أسباب التداوي المعتبرة شرعاً.

والقصد أن الاكتئاب مرض، ولا ينبغي أن يخجل المصاب به، ولا يتردد في زيارة الطبيب، لا سيما في الحالات الحادة، أو مع ظهور أعراض الهوس الاكتئابي، وكل ما يشلّ من حيوية الانسان واستمتاعه بالحياة بصورة مزمنة. ولا يمكن مع ذلك التقليل من مركزية التدين، والرضا بالقدر، والتعبد بالصبر، واعتقاد حرمة قتل النفس، وأن كل ذلك بمثابة عقاقير روحية بالغة التأثير، تساعد في مقاومة أعراض الاكتئاب، أو تخفف من آثارها.

في سياق آخر أكد المؤلف أن من المتفق عليه في الدراسات أن عدد النساء المصابات بالاكتئاب ضعف عدد الرجال المصابين به، وبعد تحليل لمسببات ارتفاع الاكتئاب عند النساء، رجّح المؤلف أن ذلك يعود لمسببات بيولوجية/عضوية، وأشار إلى تغيرات معينة تتعلق بالدورة الشهرية، وباكتئاب ما بعد الولادة، وغير ذلك، إلا أنه لا يمكن تجاهل المسببات الاجتماعية.

عموماً، الكتاب ممتع ومفيد لكل من يعاني من الحزن الاكتئابي، والمؤلف بحكم تخصصه مال إلى ترجيح المسببات العضوية للمرض، كما اهتم بعرض بعض جوانبه من خلال البيولوجيا التطورية، وانتقد مراراً العلاج النفسي للاكتئاب، وإن كان قد اعترف باستفادته من العلاج المعرفي، بجوار الأدوية.

وختم الكتاب بإشارة لأهمية الرياضة لمريض الاكتئاب، واقتبس خاتمة بيرتون في كتابه “تشريح الكآبة”: (لاتكن خاملا)!

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s